أيّها الكتّاب... في أيّ مكانٍ تُبدعون ؟
محمد العشري, زاهي وهبي, روائي , مركز المشاعر الإنسانية, شوقي بزيع, كتب, خاتون سلمى, شاعرة, فاطمة الشيدي, رواية / قصة, عالم الكتاب, عباس بيضون, كتاب هالة النور
28 ديسمبر 2009محمد العشري (روائي مصري): من الصحراء إلى الخلايا الإلكترونية
قبل سنوات عندما كنت أسافر إلى الصحراء بحكم عملي بشكل دائم، كان الفضاء الواسع هو المكان الأمثل للكتابة بالنسبة إليّ. كنت أجلس على حافة الصخر، أتأمل أفكاري وأتبّع أحداث وأبطال رواياتي، أطلقهم أمامي وأشاهدهم وقد دبّت فيهم الحياة، وأراقب كيف انطلقت أرواحهم لتتحابّ وتتحّد وتتصارع.
كنت أتعايش معهم بكل حالاتهم لأن الصحراء كانت تتيح لي الفرصة لكي أنصت إلى ذاتي بعيداً عن الزحام والمؤثرات الخارجية، الأمر الذي يجعلني حراً ومنطلقاً ومنتشياً بلا حواجز أو قيود.
الآن، بعد أن قلّت سفراتي إلى الصحراء تحوّلت بشكل كامل للكتابة على جهاز الكمبيوتر. فأنا أكتب اليوم داخل الخلايا الإلكترونية بتلقائية أفضل من الكتابة على الورق، وهذا يتيح لي أن أكتب في أماكن كثيرة أكون فيها وحدي دون أن يخرجني أحد من الإنصات الكامل إلى ذاتي.
فالصفحة البيضاء أمامي في جهاز الكمبيوتر هي الصحراء الممتدة التي تفتح لي أفقها وتطلق أصواتها وحيواناتها وحشراتها لتؤنسني وتصاحبني في رحلة الكتابة تماماً مثل الفتنة التي كانت تمنحني إيّاها الصحراء.
أمّا الشيء القيّم الذي توفره العلاقة الحميمة بجهاز الكمبيوتر أنه يُصبح بنظرك نافذة سحرية على أطراف العالم البعيدة حيث أسمع منها صدى صوتي وربما تأثيره على ذاتي لكونه يجعلني أتحرّك داخل ما أكتبه بمرونة.
هذا الأمر أتاح لي بطبيعة الحال أكثر من مكان وصحراء وحياة، بالإضافة إلى سهولة التبديل والتغيير في الكلمات والجمل والمشاهد، ما يمنحك حرية أوسع في التعامل مع البناء الروائي. وهو ما يغذّي الخيال، ويجعله مشتعلاً بالشغف الدائم.
فاطمة الشيدي (كاتبة عُمانية): المكان ذاكرة القلب
للقلب ذاكرة حية وعصية على النسيان والموت، والمكان جزء من تلك الذاكرة. المكان هو ألوان الذاكرة المترسبة في قعرها وهو أرواح من سكنوه، وإذ نحب مكانا فنحن بضرورة العشق نحب ساكنيه.
إنّه ليس غواية الأطر بل حالة تأثيث الذاكرة بروائح الحزن والعشق ولغة الحب والصداقة، والكلمة الجارحة حد الماء، والحادة حد الحياة.
وكلما كبرنا تغادر رائحة العشب قلوبنا لتصبح برائحة الدخان، ولا يعود لأرواحنا متعة الاكتشاف والتجريب والبحث، نصبح فقط راغبين بأن نتشبث بما لدينا، بالأرواح التي تعيش داخلنا وإن لم تكن بالقرب منا، بالأمكنة التي تسكننا وإن لم نسكنها.
مع العمر ندرك جيدا أننا لم نكن يوما حزانى بصدق، ولم يكن يوما ثمة وجع حقيقي، ندرك أن كل شيء كان مجرد دلال شعوري، فلاشيء أبدا يستدعي الحزن.
ربما كنا ندلل أرواحنا بالحزن، ونغتسل بالدمع لنصبح أكثر خفة ونحن نكتب نصاً جنائزياً حين تكون درجة الوعي وطاقة التأمل القصوى على أشدها في التحفز والجهوزية المرعبة، تلك الحالة التي تشبه حالة وخز حادة تجرح الروح، ولا تملك معها سوى الجزع والصمت لفترة، أو كتابة نص موجع.
وربما لا يمكنك حتى أن تكتب! فحين تمضي في الحياة وترى الأوجاع الحقيقية لا تملك سوى أن تصمت، أو تتظاهر به، تضحك أو تدّعي الضحك كحالة رفض أشد من الحزن ومن الكتابة عن الحزن، ووجع أقسى من الألم، ومن تجسيد ذلك الألم بلغة ما، إنها حالة إدراك فقط.
حديث عادي جدا مع صديق، قد يغمرك فجأة شعور غامض، شعور بالألفة البسيطة والحقيقية، بالحزن الدافئ، والسلام الجميل، بالحنين لمشاعر عشتها يوما، وأمكنة أحببتها وكائنات قديمة في ذاكرة القلب، لها رائحة شجر الغار، أو رائحة البحر، أو رائحة الزمن الجميل المضرج بالقيم الرفيعة، كالنبل والصدق، شعور يوقد فيك شجناً حاراً قادراً أن يجعلك تفرح وتحزن في وقت واحد، يجعلك تتحسس قلبك وتعرف أنه يملك ذاكرة لها لون قرمزي يشبه ألوان قوس قزح، وطعم ورائحة تشبه القهوة الممتزجة بالهيل والقرنفل، وماء الورد والزعفران، فتهز تلك الذاكرة ببطء لتتساقط أقمار العشق، ومطر الحنين ..
شوقي بزيع (شاعر لبناني): المقهى احتضن كلّ كتاباتي الشعرية
كانت الكتابة الشعرية بالنسبة إليّ متصلّة دائماً بالمكان وبأماكن محدّدة دون سواها. فالأمكنة تبدو كما لو أنّها تُشاركني كتابة القصيدة وتوفّر لي القدر الأكبر من الصور والأخيلة.
وهذه الأماكن هي أماكن مُغلقة بامتياز حتى لو لم يكن يفصلها عن الخارج يابسة أم بحر سوى زجاج شفّاف. فالكتابة تنمو في كنف العزلة بعيداً عن الفضاء البصري الواسع الذي يُشتّت الذهن ويمنع اللغة من التكوّن، لذلك أجدني حين أكتب أسدل الستائر بكاملها من حولي حيث يعمّ ظلام الخارج ولا تُضاء إلاّ مصابيح اللغة وحدها.
ولأنّ الإنسان أسير عاداته التي تبدأ كفعل حرّ في البداية ثمّ تتحوّل إلى قيد يصعب الفكاك منه، فقد تحوّلت المقاهي إلى مكان وحيد لتكون القصيدة عندي حاضرة بدءاً من «كافيتريا» كليّة التربية في سبعينيات القرن المنصرم مروراً بمقهى «دبيبو» على شاطىء الروشة الذي احتضن أكثر أعمالي الشعرية على امتداد ثلاثة وعشرين عاماً وانتهاءً بمقهى «عروس البحر» على شاطىء المنارة الذي لجأت إليه كخطّ دفاع أخير عن الكتابة بعد أن تحوّل مقهى «دبيبو» إلى مطعم عادي لا يسمح لي بالتركيز على أيّ معنى أو موضوع في ظلّ طرطقة الصحون والملاعق.
والمفارقة أنني رغم العزلة التي أفترضها في الكتابة الشعرية إلاّ أنني لا أستطيع الكتابة في منزلي وإن كنت وحيداً أو داخل غرفتي الخاصّة، حتى أنني عندما كنت عازباً وأعيش بمفردي لم أتمكّن من كتابة قصائدي في منزلي ربما خوفاً من الشعور بتلك العزلة الإنسانية أو من إزعاج جرس المنزل أو الهاتف.
مع الإشارة إلى أنني أستثني هنا كتاباتي الصحافية العاديّة التي يُمكنني إنجازها أينما شئت. أمّا الكتابة الشعرية فهي التي تُفرض عليّ طقوساً أكثر صعوبة وتعقيداً، فأنا مثلاً لا أجلس في المقهى الذي أرتاده إلاّ على الطاولة ذاتها والمقعد إيّاه ولا أستخدم سوى لون واحد للورق والحبر وهو الأبيض الناصع والأسود القاتم.
ولا أفرغ من الورقة البيضاء إلاّ بعد أن يسودّ لونها بالكامل ولا يبقى فوقها أي مساحة غير «مدرّجة» بالحبر وأحياناً لا يبقى من عشرات المسودات الورقية سوى سطر أو سطرين أجدهما جديرين بالتدوين والباقي يذهب إلى سلّة المهملات.
عباس بيضون (كاتب وشاعر لبناني): كتاباتي الإبداعية أنجزها على السرير
نادراً ما أكتب في وجود الآخرين، لذا أراني أُنجز معظم الكتابات الإبداعية (رواية وشعر) في غرفتي وعلى سريري. هذا لا يعني أنني أشترط وجودي داخل غرفة مُغلقة ومعزولة تماماً حتى أتمكّن من الكتابة، لكنني أفضّل أن أكون وحيداً في جو من الخلاء مع نفسي.
فعلى سبيل المثال عندما كان أولادي لا يزالون صغاراً كانوا يدخلون أحياناً عليّ أثناء الكتابة ولم أكن أتضايق وبالتالي أمنعهم، وإنما أحرص على أن أكون في شكل عام بعيداً عن أجواء الضجة والحركة والزحام. لذلك أختار الصباح كوقت مفضّل للكتابة والسرير كمكان.
ولا أخفي عليك أنني في بعض الأحيان أغيّر مكاني وأتنقّل في معظم أرجاء المنزل حتى أسترجع نفسي وألتقط أنفاسي لأنني اعتدت أن أكتب بقلق.
أمّا كتاباتي الصحافية فغالباً ما أكتبها في مكتبي داخل الجريدة.
زاهي وهبي (شاعر لبناني): عالمي الشعري يسكن المقهى...
المكان الذي يروقني للكتابة هو دون شك المقهى. فأنا أزاول الكتابة في هذا المكان بالذات لأنّه يمنحني إحساساً بأنني أدخل الحياة وأعيش على هامشها في آن واحد، وحيداً إلى طاولتي ولكن وسط جموع الناس أو أنني في حلبة الملعب وعلى مقاعد المتفرجين في الوقت نفسه.
وأكثر ما أحبّ مقاهي الزجاج والأرصفة التي تعطيني إنطباعاً دائماً بإمكان مراقبة الناس دون أن أموت همّاً. فالعزلة لا تمنحني الشعور بالطمأنينة والسكينة المطلوبة لعملية الكتابة على عكس الكثير من الزملاء الكتّاب والشعراء الذين يُفضّلون الغرف المقفلة.
ففي منزلي مثلاً أكتب على «طاولة السفرة» وليس في مكتبي لأنّ المكتب يعكس مناخاً من البرودة الناتج عن الإحساس العملي، الأمر الذي يتناقض ونظرتي إلى الكتابة التي اعتبرها جزءاً من الحياة وليس من العمل الذي أزاوله.
خاتون سلمى (شاعرة لبنانية): مكاني الأمثل للكتابة أجده في ذاتي نفسها
للكاتب كل الأمكنة والأزمنة ما عدا تلك التي تضيق بروحه، عندها تغادره الكتابة وهي تعده بلقاءٍ آخر. أين؟! ومتى؟ هذا ما لايمكن التكهن به.
حاولت كثيراً الالتزام بمكان خاص بي للكتابة لأجد نفسي في حال هروبٍ دائم من المكان المحدّد.
وإنْ أجبرتُ روحي على المداومة في مكان معيّن أجدني ألوذ به صاغرةً صامتًة أمام مآرب حيثياته المنظَّمة. كذلك أجدني حائرةً أفري بجناحين يتلاطمان ليبقى الجدار حارس كلام يتناثر في الهواء.
وقد يعود هذا الأمر ربما إلى اقتناعي بأن واقعية المكان لاتقوى على استيعاب لانهائية أحوال الروح. إذْ يبقى للفضاء، بتوالد أمكنته وأوقاته، التأثير المحفِّز على التعبير بكلّ أشكاله.
لذا كانت الكتابة بالنسبة لي ، وما زالت، نتاج مداهمة لا أدري متى وأين تطالني. حينها أمضي مكبلة بأصفاد تلك اللحظة وأنا في فضاء زمن ما ومكان ما، لا أذكر متى وأين.
لست أدري لماذا ربطوا فعل الكتابة بنمطية صفات محددة كالهدوء والعزلة للمكان، وأن الليل أنسب وقتٍ وزمان! فقد بقيت لفترة أصدق هذه المقولة إلى أن لاحظت أن الفضاء الذي يطالني فيه فعل الكتابة دون مداهمة هو الفجر، بدء احتمالات مكان آخر وزمن آخر.
إنه الزمن الذي يجعلني ألامس روحي بعصا يقظةٍ سحرية ليصحو عالمي وليبدأ حوار ينتهي على أي ورقة أعثر عليها. يبقى أن أؤكد، على الأقل بالنسبة إلي، أنّ المكان الأكثر تأثيرًا بي يبقى ذاتي نفسُها.