ثنائيّ من دون أولاد كيف يكون طعم الحياة؟

دينا الأشقر شيبان 09 يونيو 2018

الحياة سلسلة مراحل متتالية يعيشها الإنسان من المهد الى اللّحد، من الطفولة إلى الشّيخوخة، في كنف عائلته. فمن الطّبيعيّ أن يكوّن كلّ ثنائيّ مثلاً، أسرةً بعد الزّواج، ليملأ الأطفال البيت فرحاً ويجعلوا للحياة مذاقاً مختلفاً.
إذ إنّ اختبار شعور الأمومة أو الأبوّة من أسمى المشاعر التي قد تنتاب المرء... لكن ماذا يحصل إذا جرت الرّياح بما لا تشتهي السّفن؟ ماذا عن كلّ الذّين لم يرزقهم الله بأولاد؟ هل تتوقّف عجلة الحياة عندهم، أم يعوّضون «النقص» بطرق أخرى؟ فمن قال إنّ أساس العائلة الناجحة هم البنين والبنات؟ منذ نعومة أظفارها، تحمل الفتاة الصّغيرة الدّمية لتحضنها وتهتمّ بها وتحبّها، فإذا بها تلعب دور الأم منذ صغرها، وينمو الصبي على فكرة تأسيس عائلة في المستقبل، ليكون هو ربّ البيت والمسؤول عن أولاده.
ومع الوقت، تتبلور الفكرة أكثر فأكثر، إلى حين بلوغ مرحلة الزّواج، ليبدأ بعدها «التّفكير الجدّي» في تأسيس عائلة وإنجاب الأطفال. إلاّ أنه في بعض الأحيان قد يتعذّر القيام بذلك، الأمر الذي يُعدّ «تحصيل حاصل» في رأي الأكثريّة، وذلك لأسباب عدة، بيولوجيّة أو طبّية.
فعلى الرّغم من تقدّم العلم وتطوّر الطّب، تقوى مشيئة الخالق على كلّ شيء، وقد يعجز الطّب أحياناً عن تقديم الحلول. كثرٌ هم الأشخاص الذين يحاولون بشتّى الطّرق الإنجاب، بوسائل طبيعيّة أو بمساعدة طبّية، وتبوء محاولاتهم بالفشل.
لكنّ ذلك لا يمنعهم من متابعة حياتهم الزوجيّة مع الشّريك الذي اختاروه عن حبّ وقناعة، ليبقوا معاً في السرّاء والضرّاء! فما الذي يختلف في حياة هؤلاء؟ وكيف يعوّضون النقص العاطفيّ والفراغ في حياتهم؟ وهل يؤثّر ذلك في علاقتهم مع أزواجهم؟


تتحدّث الاختصاصيّة في علم الاجتماع ريتا بو سمرا عن الانعكاسات التي قد يمرّ بها كلّ ثنائي لم يُرزَق بأولاد، وتكشف عن وسائل التعويض ونمط الحياة الذي يتبنّون.
كما تتطرّق إلى نظرة المجتمع إليهم، وإلى كيفيّة انخراطهم في مختلف المجتمعات والمناسبات. ويدلي أشخاص بشهادات حيّة عن وضعهم هذا، بكلّ شفافيّة ووضوح.

بين الأنوثة والأمومة
بعد مرحلة التّعارف والإعجاب المتبادل، يعيش الثنائي حلم بناء أسرة، لكنه سرعان ما يرزح تحت ضغط مراقبة المجتمع له، في حال تأخّرت فترة «تكوين العائلة» والإنجاب.
فتتمحور الحياة حينئذ حول ضرورة الحمل مهما كلّف الأمر، لتأمين النّسل وضمان استمراريّة العائلة! إلاّ أنّ الأحلام والمخطّطات قد تبوء بالفشل حين يصل الثنائيّ إلى حائط مسدود، فتبدأ مرحلة الهلع واللوم المتبادل، مروراً بأخذ النصائح والإرشادات، وصولاً إلى استشارة الأطبّاء وإجراء التقنيّات المساعِدة الضروريّة... ومع ذلك، لا نتيجة مُرضية!
تقول بو سمرا: «من البديهيّ أن تولد الفتاة وتولد معها غريزة الأمومة، فنجد لديها الرغبة في تمثيل دور الأمّ في اللّعب مع الدّمى. ومع مرور الوقت، يزداد لديها التّوق الى تأسيس عائلة، وما إن تصطدم بالواقع المرير، حتى تنهار أحلامها ويتزعزع استقرار حياتها الزوجيّة، فيسيطر عليها القلق والتوتر. وما يزيد من معاناتها، هو الضغط النفسي والأسري المفروض عليها من الآخرين، من حيث يدرون أو لا يدرون، ما يُشعرها بالعجر والإحباط وفقدان الثقة في النفس».

أحكام المجتمع
تؤكّد بو سمرا أنّ «المرأة العاقر غالباً ما تنظر إلى نفسها وإلى جسدها نظرة فشل، وكأنّما جسمها لا يعمل بالطريقة السليمة التي تقتضي إنجاب الأطفال! فتشعر حتماً بالنقص مقارنةً مع غيرها، فتصبح مفرطة الحساسيّة وتنشغل بأفكار ومخاوف تطوّر لديها الاكتئاب والانزواء أحياناً، وتصبح أسيرة نظرات الشّفقة من الآخرين، وتتعرّض لأبشع «الإهانات» المعنويّة فتشعر أنها ناقصة ولم تتمّم واجباتها في الحياة».
وقد تظهر عليها عوارض التفكير السلبيّ، وتبدو علامات الحزن واليأس واللامبالاة بما يحيط بها واضحة عليها، وينخفض مستوى تقدير الذات عندها وتشعر بالدونيّة».
من جهة أخرى، ترى بو سمرا أنّ «المجتمع ينظر إلى المرأة كوسيلة للإنجاب أوّلاً، إذ لا تتقبّل غالبية المجتمعات فكرة المرأة العاقر، لكنها أكثر تساهلاً مع الرجال العقيمين! فبعض القيم التقليديّة والمجتمعات تسمح للرّجل بالتفكير في الطلاق والزواج من امرأة أخرى في حال عدم تمكُّن زوجته من الإنجاب، فيما تعتبر أن على المرأة أن «ترضى» بنصيبها، وألاّ تتخلّى عن زوجها في حال تبيّن أنّه هو العقيم».

مشاكل زوجيّة
توضح بو سمرا: «قد تصبح العلاقة بين الثنائي متوتّرة في ظلّ توجيه المجتمع اتهاماته الى العائلة المصغّرة، ما يُضعف أواصر الحبّ ويقلل الاحترام بينهما، فيصبح شغلهما الشاغل هو محاولة الإنجاب. فبعد مرحلة الصّدمة والانهيار النفسيّ والاكتئاب وفقدان الأمل ورفض الحقيقة، تبدأ مرحلة الخلافات والتّباعد الزوجي والانصياع إلى أحكام المجتمع المُسبقة والتمسّك بالتقاليد العائلية وسواها... ما يخلق شرخاً كبيراً ويؤدّي في بعض الحالات إلى الانفصال أو الطّلاق».

تفاؤل مستمرّ
تؤكّد بو سمرا أنّ «رغبة الحياة تنتصر في النهاية، فعندما يتقبّل الثنائيّ الواقع وتتوقّف المرأة عن الشجار مع جسمها ومقاومة الأمر، غالباً ما تسير الأمور بشكل أفضل. فقد تتحوّل النقمة نعمةً بعد فترة، ليتمّ الحمل تلقائياً بعد سنوات من العلاج من دون جدوى، وذلك نتيجة تقلّص الضّغوط النفسيّة والاجتماعيّة وارتياح الجسم والأعصاب معاً». فبعض الأشخاص قد يلجأون إلى نوع من العلاج السلوكيّ المعرفيّ للتخلّص من الأحاسيس السلبيّة التي تؤثر في تصرّفاتهم، فيتمّ العمل على تطويع التفكير لملاءمة المنطق، وليس على تحويل التفكير السلبيّ إلى إيجابيّ.
وتضيف: «في مجتمعاتنا، نجد أنّ المرأة الذكيّة - وإن عانت مشكلة عدم الإنجاب - تمارس حياتها اليوميّة كسواها، وهي مبدعة في سائر المجالات ولا تشعر بالنقص ولا يتسرّب مبدأ الغيرة المرضيّة الى حياتها. فنراها تهتمّ بشكلها الخارجيّ وتحافظ على جوهرها الداخليّ وتطوّر ذاتها وتحافظ على علاقة الحبّ والاحترام المتبادل مع زوجها، وتؤسّس لمستقل مشرق وواعد!».
فكم من بيت يعجّ بالأطفال في عائلة ملؤها المشاكل؟ وكم من بيت خالٍ من الأولاد فيه من الاستقرار النفسي والمحبّة والاحترام ما ينقص العديد من «الأسر الطبيعية».

حياة ناجحة وزواج متين!
تقول بو سمرا: «في بعض الأحيان، قد تكون هذه «النّقمة» المتجسّدة في عدم الإنجاب نعمة مخفيّة! إذ يركّز الزّوجان على إنجاح علاقتهما من دون زيادة الضّغوط والأعباء المتأتّية من العائلة الكبيرة والأولاد.
إذ نرى أنّ الاهتمام أو الحبّ يكون حصرياً للشّريك الذي يكون هو المحور، فنشاهد الأزواج وكأنما هم في سنوات زواجهم الأولى، يعيشون حياتهم على أكمل وجه، عاطفياً واجتماعياً ومهنياً، بحيث يتّجهون إلى ملء الفراغ في مجالات أخرى، ويبرعون في ذلك نتيجة عدم تقيّدهم بتربية الأولاد».
وتتابع: «يمكن التّخفيف من التوتر ومن عبء التّفكير في الإنجاب عبر القيام بنشاطات مختلفة، رياضيّة أو اجتماعيّة أو فنيّة للمحافظة على الأمل والنّظرة التفاؤليّة في الحياة، ولتحقيق الذات في سائر المجالات. كما أن من المهمّ الحدّ من تدخّلات الأهل والمحيطين والأصدقاء في مشاكل الثنائيّ منعاً لتفاقمها. وفي النهاية، يبقى تقبّل الأمر الواقع ضرورياً للمضي قدماً».


شهادات حيّة

● مايا شكر وسليمان صبيح متزوّجان منذ نحو سبع سنوات، وهما ثنائيّ ناجح رغم أنّهما لم يُرزقا بأولاد بعد. والسّبب يعود إلى عدم رغبتهما في الإنجاب الآن.
فهما يتريّثان حتى يحين الوقت المناسب في رأيهما. إذ تزوّجا عن حبّ واقتناع بإكمال الدّرب سويّاً. تقول مايا: «ليس الهدف من زواجنا هو الإنجاب فحسب، بل نحن نحبّ رفقة بعضنا ونعيش أسعد أيّام حياتنا.
حياتنا مليئة بالمغامرات والنجاحات والفرح، ولا نشعر بالنقص أو بالفراغ مطلقاً. فليس كلّ الناس متشابهين، وما يريده البعض قد لا يفكّر به آخرون. فنحن مقتنعون بأنّ علاقتنا كما هي الآن، كاملة، إذ نفكّر بالطّريقة عينها ولا نرى ضرورة الآن للإنجاب».
وتضيف: «من الطّبيعي أن ينتقدنا المجتمع، أو يحاول البعض التطفّل على حياتنا الشخصيّة، أو ربما يتساءل قسم من الناس عن سبب عدم إنجابنا ويرجّحون أن تكون المشكلة عقماً أو ما شابه، لكنها ليست كذلك.
كما يتسرّع كثيرون في الحكم علينا وعلى مصير علاقتنا. لكننا نركّز في زواجنا على الاستمتاع بكلّ لحظة، وعلى تطوير حياتنا المهنيّة والاجتماعية والشخصية، وفق ما نراه مناسباً». إنّ الأطفال مهمّون طبعاً لاستمراريّة الحياة، لكنّ الخيار لا يتعلّق إلا بالزوجين. وقد نقرّر في ما بعد الإنجاب أو الإبقاء على قناعتنا الحاليّة.

● فيفيان وفادي عقيقي متزوجان منذ نحو خمسة عشر عاماً وقد عقدا آمالاً كبيرة على بناء عائلة مكوّنة من ثلاثة أولاد. إلاّ أنّ الأمور لم تجرِ كما خطّطا لها، بحيث حاولا مراراً الإنجاب، وباءت محاولاتهما بالفشل رغم خضوعهما لسائر العلاجات الطبّية.
تشير فيفيان إلى أنّ المرحلة التي خضعت خلالها للعلاج أثّرت فيها نفسياً ومعنويّاً، وبعد عدد من المحاولات الفاشلة أوقفت العلاج لأنّه كان ينعكس سلباً على علاقتها بزوجها وعلى حياتها الخاصّة. هي لا تنكر طبعاً وجود نقص في حياتها، لكنّها تحاول ملء الفراغ من خلال مختلف النشاطات التي تقوم بها. كما وتفرّغ حبّها وطاقتها في أولاد إخوتها، وتحاول دوماً التخطيط لمشاريع مسلّية مع زوجها.
أمّا فادي فيقول إنّه بعدما رأى معاناة زوجته بلا أي نتائج، قرّر التوقف عن تكرار خيبات الأمل، في وقت كان يتمنّى طبعاً لو رزق بأطفال. لكنّ الحياة تستمرّ، وهو قد تأقلم مع الأمر، وكيّف نمط حياته مع زوجته وعائلته وأصدقائه، ويلجأ إلى الرياضة للتنفيس عن طاقته المكبوتة، كما يهوى السّفر في رحلات استكشافية ويمارس الصّيد. أمّا أكثر ما يزعجهما فهو طبعاً كلام الناس الذي أثّر بدايةً، وكاد يزعزع العلاقة المتينة بين الزوجين، لكنّهما سرعان ما تخطّيا الأمر بمساعدة العائلة وهما لا يسمحان قط للفضوليين بإبداء الآراء لأنّهما قد خضعا لمشيئة الله وتقبّلا مصيرهما.