هل تبقى الأم مُلهمة ولدها الفنان؟
يوم المرأة العالمي, زاهي وهبي, المخرج العراقي جواد الأسدي, قصيدة, الأمير خالد الفيصل
19 مارس 2012الشاعر والإعلامي زاهي وهبي
«لم تكن أمي مجرد ملهمة بل كانت مرجعية بكل ما تعنيه الكلمة. إنها مرجعية روحية و فكرية و أدبية و تربوية»... يتحدّث زاهي بعاطفة الابن المشتاق إلى أمّه وحبيبته ومعلّمته فيقول: «على المستوى اليومي المباشر كانت معلّمة حقيقية، وعلى المستوى الروحي كانت ملهمة و رافعة نحو السمو والتعالي والارتقاء بالنفس البشرية إلى مطارح لا أرضية و نقاءات سماوية صافية و فيض نوراني خالص لا يتأتى إلا لمن كانت لهم حظوة الرحمن الرحيم».
يعترف زاهي أنّها علّمته الشعر دون أن تدري. نقلت إليه القيم الإنسانية دون تبجّح وكانت السبب في كلّ ما صار إليه. «منها تعلّمت الشعر والحكمة والشجاعة والخفر والتواضع، ولئن كان لما أنا عليه اليوم أي معنى أو أي قيمة فالفضل بعد الله عز وجلّ يعود إلى تلك السيدة الراقدة تحت تراب قريتي «عيناثا».
و من هناك، من رفاتها لا أزال أشعر بشعاع الوحي و نور الإلهام يشحنان روحي بطاقة هائلة على التجدد و الإبداع و تجاوز كل المعوقات الخبيثة والنيات الفاسدة و نظرات الحسد والضغينة».
يستذكر الشاعر ما كتب لها إثر رحيلها: «يعرفك اللون، يعرفك الصوت، يعرفك العطر المقيم، يعرفك الحزن القديم، تعرفك البيوت التي عرفت آلام المخاض، تعرفك مريم التي انتبذت لطفلها مكاناً قصياً.أتكونينَ مريم المستمرة، طَلقُك نادى الربيع، طفلك سكب النور، تفتح ورداً في أكاليل الشوك.أتكونين مريم الدائمة، لك طرزت السماءُ ثوبَها بالمطر، زخرفت البحرَ بما وهبها، لتغدو اليابسةُ أكثر كَرَماً وليونة...».
ويُكمل: «لأنها لا تزال ملهمة من تحت ترابها قلت لها: «يناديني التراب الذي كنته قبلك، تُقرعُ في أنحائي أجراس الاشتياق، كيف تكونينَ هنا و تكونينَ هناك، في الغيمة وفي التراب، في الوردة و في المحراب، بل كيف تكونينَ الغيمةَ و التراب، الوردةَ والمحراب، الصخرةَ وآلام الظهر، الهاوية وأعلى الجبل.
يا حنان العتمة و يا شهقة الضوء، يا نعومة الرماد و يا عين النسر، أبكيك في بلاد تعرفك ولا تعرفينها،أبكيك في روما و تبكيك امرأتي، تمسح دمعتي بدمعتها، دمعتان معاً تصيران ابتسامة، الابتسامة تصير طفلةً غداً.»
يُضيف زاهي: «وبالفعل ، الدمعتان صارتا ابتسامة والابتسامة صارت طفلة اسمها كنز، وكنز تشبه جدتها كثيراً. فعسى الجدة تكحّل ناظريها من عليائها بحفيديها: دالي وكنز اللذين آتيا إلى هذه الدنيا بعد رحيلها لكنهما ورثا منها طيبة و دماثة و حضوراً منيراً وسمات تتوارثها الجينات جيلاً تلو جيل.
ما أراه في أمي أراه في كل أمّ. يوم أعددت و قدمت برنامج «ست الحبايب» كنت أجلس قبالة الأمهات اللواتي قابلتهن كطفل في حضرة أمه ، و بهن كنت أجدد براءتي و أستعيد طفولتي، و معهن كنت أردد حقاً «الدنيا أم».
وكل أم ملهمة. طبعاً، حتى الأم التي تتخلّى عن أولادها تكون لحظتها لا تعيش أمومتها. هذا ما قاله لي يوماً الكبير سعيد عقل، وأتبناه حرفياً. ما من أم غير ملهمة، اللهم إلاّ تلك التي تُنحّي أمومتها جانباً. الأمومة بذاتها ملهمة، ملهمة ذاتها وملهمة الذات الطالعة منها. الأمومة أكثر الصفات قرباً وتمثلاً بفعل الإبداع».
قصيدة إلى أمّه
منديلها البحيرة، صوتها المساء
التي ودعتني في الصباح
بضفيرة قليلة و يدين من دعاء
حفرت ظلاً على الحائط
أوقدت ناراً صغيرة لأجلي.
ساكنة العتبة أمي
رافقتني إلى الباب
عُدْ باكراً، قالت
علقت في زندي شمساً و أحد عشر كوكباً.
صديقةُ الرُقيّات
مسحت جبيني بزيت راحتها
ضئيلة القامة
عباءتها غابة، عصفورة حنان.
المسكونة بالأرواح الطيبة و الأولياء
دمعتها طريق العين
مرةً ذرفت حقلاً
مرةً صوتها المساء.
خادمة الهيكل يدها مشكاة
نذرت خبزاً و ملحاً لغيابي
حافية ملأت السفح سنابل
أرخت ضفائرها ثلجاً غطى الجبال.
جارةُ السنونو
منديلها البحيرة
ماءٌ دافق على المنحدرات
مرةً عانقتني
نبتَ قمحٌ في شرفتها
و نزلت سماء.
طاحونةُ الضحك أمي
نافورة ماء
أول الينابيع
خاتمة النساء.
شخصية طبعت حياة كبار العظماء على مرّ التاريخ. عُلماء، فلاسفة، ملوك، شعراء... كلّهم تغنّوا بها وبحقّها ومقامها ودورها في حياة الإنسان والإنسانية جمعاء.
هي التي «تهزّ المهد بيمينها والعالم بيسارها»، كما وصفها نابليون بونابرت. هي التي قال فيها جان جاك روسو مرّة «لو أنّ العالم كان بكفّة وهي بكفّة لاخترتها هي». إنّها الإنسانة التي «تبقى كبيرة وإن صغُر العالم كلّه»، بنظر فيكتور هوغو.
هي التي لأجلها أحبّ محمود درويش حياته وخاف أن يموت خجلاً من دمعها. والتي رفض أن يُسمّيها امرأة فأسماها كلّ شيء. الأمّ هي النعمة التي نأنس بوجودها إلاّ أننا لا نُقدّر حقّ قيمتها إلاّ بعد أن ترحل.
لا شكّ أنّ حضنها هو أنعم وسادة في العالم وحجرها المكان الأكثر أماناً، إلاّ أنّ مكانتها تتجاوز أحياناً دورها الطبيعي لتُصبح في أحيانٍ كثيرة سرّ إلهام ولدها. المخرج المسرحي العراقي جواد الأسدي أمضى الجزء الأكبر من حياته إلى جانب أمّه التي حضنته وربّته واختارته ولداً وشريكاً وحبيباً، فهجرت كل أبنائها ولحقت به إلى منفاه...
الشاعر والإعلامي المعروف زاهي وهبي وُلد في بيت لم يعرف فيه سوى والدته التي كانت في حياته هي الأمّ والأب والأخت والحبيبة...في ذكرى عيد الأمّ التقينا هذين المبدعين المتقاطعين في علاقتهما الخاصة بوالدتهما. ففتحا لنا قلبهما واسترجعا دورَيْ أمّيهما في حياتهما والذكريات التي حملاها معهما والحنين الذي يعيشانه بعد رحيل «ستّ الحبايب»...
المخرج المسرحي جواد الأسدي
المخرج جواد الأسدي من الأشخاص الذين لم يُخفوا يوماً دور والدتهم في حياتهم. أمّه لم تكن من المتعلّمات إلاّ أنّها أعطته دروساً أثرَت شخصيته وأثّرت في مسرحه أيضاً.
فهي من عائلة دينية علمية تنويرية. كانت تملك الذكاء والدقّة ما جعله يشعر بأنّها مثقفة بل فنانة بالفطرة. لم يكن يتجاهل مكانتها في حياته.
كان يذكرها في كلّ أحاديثه وكتبه ومؤلفاته حتى شعرنا في كتابه «جماليات البروفة» أنّ والدته فاطمة، رحمها الله، كانت إحدى بطلات خشبته.
الأمّ في حياته هي الرحم. هذه الرحم كانت بمثابة ينبوع مُتفجّر يرمي الكثير من السحر والجمال والمعرفة والحريّة والسعادة على رحلة رجل عرف كلّ أشكال الغربة والمرارة والمعاناة.
جال المخرج المسرحي الكبير هذه عواصم العالم. كسيزيف، حمل مسرحه على ظهره حتى لفت أنظار العالم إليه. نجح وكُرّم وصار اسماً عربياً لامعاً في مجال الثقافة والفنون إلاّ أنّه ظلّ طفلاً مدللاً لأمٍ اختارته صديقاً وشريكاً ورفيقاً.
تركت كلّ أولادها وتبعته هو. كان جواد هو الأكبر والأقرب بين كلّ أبنائها. «كان لديها فخر ضمني بي. ربما كانت ترى فيّ المرآة التي تُعبّر عنها. عن مرارتها ووجعها ومعاناتها.
بعض أولادها قُتلوا على يدّ الفاشيين في العراق، فكانت تجد فيّ الشخص الذي نجح في أن يثأر لها بأسلوب مُشرّف. بالإبداع...».
المرأة من الثيمات المفضّلة في مسرح جواد الأسدي. ومن يتابع إبداعاته تتجلّى له قيمة المرأة ودورها في حياته ومسرحه. هذا أيضاً انعكاس لعلاقته الاستثنائية بوالدته.
«حضورها لم يكن حضوراً مكانياً في حياتي فقط. وإنما كان لها حضور ثقافي وإنساني عجيب. كانت امرأة شعبية. ترتدي العباءة السوداء والنظارات السميكة وإنما كانت تملك عقلاً كبيراً وعينين ثاقبتين كالنسر.
كنت أُدخلها البروفات وأسمع رأيها وأطلب من الممثلين معي بعد الانتهاء من البروفة أن يلتمّوا حولها ليسمعوا وجهة نظرها.
في إحدى المرّات نظرت إليهم بعد البروفة قائلة: ابني كالنار. لماذا لا أرى فيكم تلك النار. أدهشتنا جميعاً. كانت ربما فنانة أو مبدعة بالفطرة».
كانت تشاركه والدته التي رحلت قبل حوالي السنتين فقط حياته. في أدقّ تفاصيلها. «جلساتنا الصباحية المتكرّرة لم تكن رتيبة. بصوتها وأحاديثها كانت تجعلني أشعر بحلاوة الصباح.
أتفاءل بهذه البداية ليومي الجديد. كانت تُضفي على فنجان القهوة نكهة لذيذة. رحلت والدتي وخلّفت وراءها صباحاً أراه منكسراً لا بل يتيماً من دونها. منذ أن غابت عنّي لم أتمكّن من أن أتقاسم هذه الفترة الزمنية من برنامج حياتي اليومية مع أي شخص آخر».
لهذه العلاقة خطاياها الجميلة. ومن أبرز خطاياها أنّها جعلت من الابن غير قادر على العثور على امرأة «توازي سحرها وبحر عطائها وفيض حنانها الذي لا ينتظر مقابلاً».
فشل الإبن في إيجاد امرأة تسدّ النقص الذي خلّفته الأمّ وراءها. «أمي صديقتي ومُلهمتي ونبع الحنان والتضحية الذي تفجّر في حياتي. قوّة وجودها وحضورها وسحر الاتصال المعرفي والأمومي والجمالي بيني وبينها جعلتني عاجزاً عن إكمال حياتي مع امرأة أخرى».
في صورة هي غاية في الدقّة والجمال يصف جواد الأسدي رحيل والدته عنه: « كأنّ هناك آلاف «البروجكتورات» التي تُضيء المسرح. نورٌ يسبح في كلّ مكان ثم ما تلبث أن تطفَأ كلّ أنوار وإضاءات العالم ليُصبح المسرح مُظلماً كئيباً مخيفاً. رحيلها ترك لديّ إحساساً دائماً بالعتمة. أشعر بأنني تائه من بعدها».
في عيد الأمّ اختار جواد الأسدي أن يقصد كربلاء ليزور قبر والدته. ليحكي لها ما يُخفيه في قلبه. ليقول لها كم اشتاق إليها وكم هو بحاجة إلى جودها كي تغدو الحياة أجمل.