قصة المصري الوحيد على متن «التايتانيك» ترويها الصحافية المصرية ياسمين سعد

كارولين بزي 03 فبراير 2019

كلنا شاهدنا فيلم Titanic، وتأثّرنا بالقصة التي قام ببطولتها النجمان العالميان ليوناردو ديكابريو وكايت وينسلت. أحياناً ننسى أن القصة حقيقية، وأنه كانت هناك فعلاً سفينة مبهرة عصية على الغرق وغرقت في أولى رحلاتها. ياسمين سعد صحافية مصرية، كانت تتابع أحد البرامج التي تناولت مئوية التايتانيك في العام 2012، ولفتها وجود لبنانيين على متن السفينة، إذ لم تكن تعلم أنها تحمل عرباً في الأساس، فأجرت بحثاً واجهت خلاله الكثير من المصاعب والعراقيل، ونجحت في الوصول الى ناجٍ مصري كان على متن السفينة المشؤومة.


في البداية تقول ياسمين: “كنت أتابع تقريراً عن ذكرى لبنانيين ماتوا غرقاً عام 1912إثر اصطدام سفينة التايتانيك التي كانوا على متنها، بجبل جليد فتحطّمت ورست في عمق المحيط، وقد أثار استغرابي أن السفينة تحمل لبنانيين. وبما أنني صحافية دفعني فضولي للتعرف على حكاية هؤلاء الأشخاص، واكتشاف الأسباب التي دفعتهم للسفر عبر التايتانيك، والهدف من هذه الرحلة التي أوقفها القدر. دخلت إلى محرك البحث “غوغل”، وبدأت البحث عن الأسماء المعروضة في التقرير، وراحت تظهر أمامي تِباعاً، إذ كان كل اسم يمهّد الطريق لاسم آخر. بعدها قررت البحث عن مفقودين من مصر، فظهر أمامي اسم حمد حسب، واستغربت أن السفينة تحمل مصريين أيضاً”. وتضيف ياسمين: “بحثت عن معلومات تتعلق بـ”حمد” عبر المواقع العربية فوجدت معلومات بسيطة جداً مترجمة من الموقع الرسمي للسفينة Encyclopedia Titanic، الذي كان يبحث عن المصري حمد حسب، فقررت التحرّي عن بياناته وبالتالي الكشف عن باقي المعلومات. وخطرت لي فكرة أن أصنع فيلماً وثائقياً عن العرب المسافرين على متن التايتانيك، ولا سيما منهم حمد. وبالفعل عرضت الفكرة ولكنها رُفضت إذ لم يصدّق أحد أن في إمكاننا الوصول إلى معلومات دقيقة بعد طول سنين، وصنع فيلم من خلالها”.

“في تلك اللحظة، تراجعت واعتقدت أن ذلك مستحيل بما أنني لست قادرة على البحث بمفردي”. وتضيف ياسمين: “وصلنا إلى عام 2015، وكنت يومها أعمل في إحدى الصحف، وبالتالي بات لي مكان أستطيع أن أنشر فيه، فطرحت مجدداً فكرة أن أصنع فيلماً وثائقياً، ولكنني لم أوفّق. عرضت الفكرة على الصحيفة التي أعمل فيها فوافقوا لكنهم لم يصدّقوا أن في استطاعتي الوصول إلى معلومات، وبالفعل دخلت إلى موقع السفينة وبدأت البحث عن كل معلومة تتعلق بـ“حمد حسب”، فوجدت برقية كان قد أرسلها الى عائلته ويقول فيها: “كلنا بخير”. البرقية كُتب عليها التاريخ والعنوان، وهو المينا هاوس. اتصلت بالمينا هاوس وعرضت عليهم المعلومات التي أملكها، وبالتالي سألتهم ما إذا كانوا يحتفظون بأرشيف مسجّل، لأن القضية مهمة وتتمحور حول ناجين من الغرق في حادثة التايتانيك، وخصوصاً تلك البرقية نظراً لأهميتها، فأجابوا آسفين بأن الأرشيف أُتلف وأنهم لا يملكون أي معلومة في هذا الخصوص، لكنهم أشاروا إلى أن مينا هاوس ربما كان مركز بريد، وتُرسل البرقيات إلى ذاك العنوان، وليس شرطاً أن “حمد حسب” كان يعيش هناك، أو أن الذين أرسل لهم البرقية كانوا يسكنون في تلك المنطقة، ولكن لا جدوى من ذلك لأن الأرشيف مُسح”.

وتتابع الصحافية المصرية حديثها قائلةً: “أخذت البرقية إلى مكتب البريد، فنفوا وجود أي رسالة مؤكدين أن الأرشيف قد مُسح، حتى أنهم شكّكوا في الاسم أو أنني أخطأت في نقله لأنه نادر وغريب. ففي اعتقادهم، ربما يكون اسمه محمد حسب الله، وبالتالي لا جدوى من بحثي، فاقترحوا عليّ اسماً اعتقدوه صحيحاً وطلبوا مني البحث عنه. عندها، شعرت بالضياع، فهل أبحث عن شخص باسم جديد أم أنني سأبحث عن حمد حسب! لذا قررت الإبقاء على اسم حمد، لأن الأسماء المُدرجة في الموقع كانت صحيحة، فلماذا يخطئون بهذا الاسم؟”.

تمسّكت ياسمين بالخيوط التي باتت بين يديها، وأكملت طريقها وذهبت إلى دار المحفوظات لكي تجد أي وثيقة مسجّلة باسمه، سند إيجار، شهادة ميلاد أو شهادة وفاة... لكنها لم تجد أي معلومة تخصّ ذاك الرجل، وتقول: “عندما ذهبت الى دار المحفوظات، اعتقدوا أنني أصوّر فيلماً كوميدياً أو مقلباً للكاميرا الخفية، إذ كيف أبحث عن ماضي شخص كان على متن التايتانيك! قصدت دار الكتب والوثائق لكي أفتّش في الجرائد، ولا سيما جريدة “الأهرام”، فدقّقت في الأعداد التي صدرت قبل حادثة غرق التايتانيك بشهر وبعدها بشهر، لأجد أن الجريدة تناولت موضوع السفينة بشيء من الإبهار إذ إن الذين يصعدون إليها هم من علّية القوم. وحين تحدثت عن الفاجعة ذكروا أنهم سألوا الشركة المالكة للسفينة ما إذا كان على متنها مصريون أو عرب لكي يتسلّموا جثثهم، ولكن الشركة نفت حينها وجود أي شخص عربي أو شرق أوسطي في السفينة، فوثقت إدارة جريدة “الأهرام” بكلام الشركة وتوقفت عن البحث”.

بعدها، بدأتُ البحث في المواقع الأجنبية، لأُفاجأ بأن محاكمة كانت تنتظر من كانوا على متن السفينة للكشف عن أسباب غرق السفينة، ولمعرفة ما إذا كان القبطان ومالك السفينة قد قصّرا في واجباتهما، فأُجريت محاكمة في أميركا وأخرى في بريطانيا، وحصلت على وثائق هذه المحاكمة وشهادة حمد حسب التي وقّع عليها باسمه وعلى المقتنيات التي كانت بحوزته، ووجدت بطاقة دُوّن عليها عنوان مكان عمله في Thomas Co. فما كان مني إلا أن توجّهت الى الشركة للسؤال عنه، ولكنهم لم يكونوا يملكون أي معلومة عنه. بعدها، اتصلت بـ "هاربر للنشر"، التي كان مالكها هنري هاربر قد اصطحب حمد حسب معه في رحلته عبر التايتانيك، فنفوا هم أيضاً معرفتهم به، لتُسدّ الأبواب في وجهي من جديد. وعلى الرغم من البحث المضني، لم أيأس أبداً، وقررت التواصل مع عائلته بأي وسيلة حتى أعرف القصة الحقيقية، فكان الحل الوحيد بأن أنشر الموضوع كرحلة بحث، ونشرته في العام 2015. طال انتظاري، وذات يوم علّقت امرأة على الموضوع قائلةً إن جارها يدّعي أن جدّه كان على متن التايتانيك. أخذت التعليق وتواصلت معها وأوصلتني إلى عائلة الحفيد. تردّدت في البداية، لكن بعد أن قصدت منزل هذه العائلة واستمعت إلى تفاصيل اتّضح فعلاً أنها صحيحة، تأكّدت من أنهم أحفاده. التقيت بالحفيد الأكبر وكان يملك صورة لحمد، وهي الصورة الوحيدة له”. وتتابع ياسمين: “نشر التحقيق استغرق وقتاً طويلاً، لأنني كنت أرغب بتحويل هذه القصة الى رواية، ولكن كتابة الرواية تأخرت أيضاً، فاضطررت لنشر التحقيق في شهر آب/أغسطس 2018”.

وتنقل ياسمين ما رواه الأحفاد عن جدّهم حمد حسب موضحةً: “علمتُ أنه كان يحب الآثار العالمية، وكان ملقّباً بـ”شيخ العرب”. عندما كان يرتدي القفطان يعتقدون أنه رجل دين، وحين كان يرتدي الملابس العادية، أي البدلة، يظنّون أنه أجنبي، لأنه ذو بشرة بيضاء وعينين زرقاوين لكن شعره أسود، وكانت شخصيته مزيجاً بين الأسلوب العربي والغربي، وتعلّم بمفرده اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية، إذ كان يهوى التحدّث مع السيّاح عن الآثار، وكان له أصدقاء أجانب كثر، ويدعوهم دائماً إلى منزله لأنه كان رجلاً ثرياً. وبدورهم أحبّوا أن يبادلوه بالمثل، فاشترى هاربر تذكرة سفر باسمه على الدرجة الأولى ليرافقه في الرحلة، وسافر حمد معهم علماً أن زوجته كانت حاملاً بابنه، ولكنه أخبرها بأنه لن يتأخر وسيعود قبل أن تلد. انطلقوا في رحلتهم أولاً إلى فرنسا، ثم توجّهوا للسفر إلى أميركا عبر التايتانيك. في البداية لم يكن هناك مشكلة في الإبحار، وفق القصة التي روتها عائلة حمد، إلى أن جاء اليوم المشؤوم وبدأت السفينة بالغرق. كان حمد يتمشّى على ظهر السفينة، فسمع صراخاً في غرفة القيادة، وعندما حاول الإنصات جيداً عرف أن السفينة تغرق، وكان أمامه متسع من الوقت ليخبر أصدقاءه ويحضّهم على جمع مقتنياتهم. وقيل إن القبّعة التي وجدها مخرج الفيلم جيمس كاميرون تعود إلى هاربر، وقد تم إنقاذهم بقارب نجاة يحمل الرقم ثلاثة، وعندما نزلوا الى القارب، قطع حمد الحبل كي لا يتهافت المستغيثون على قارب النجاة ويغرق هو الآخر. لقد شاء القدر أن يبقوا أحياء، ويصعدوا الى السفينة كارباسيا”. وتضيف ياسمين: “المفاجأة أن حمد لم يعُد الى عائلته إلا بعد ثلاث سنوات من إنقاذه، من دون أن يعرف أحد أين أمضى كل هذه المدة. فهو لم يخبر عائلته بمكان إقامته، وهي بدورها لم تسأله عن أي تفاصيل، ذلك أنه ذو شخصية قوية وعندما يمتنع عن التحدّث في أي موضوع، لا يمكن أحداً أن يثنيه عن رأيه، وحتى زوجته صُدمت بعودته واختلطت لديها مشاعر الذهول والفرح. بقي حمد لفترة متعباً، مصدوماً ويفضّل العزلة وعدم التحدّث مع أحد، ويرجّحون أنه كان فاقد الذاكرة أو مسجوناً”.

وتقول ياسمين: “لكي يكون بحثي شاملاً، أحاول حالياً إيجاد شركة لإنتاج الفيلم الوثائقي حتى أتمكن من السفر إلى أميركا والبحث في منزل هاربر عن دلائل ربما تقودني الى المكان الذي عاش فيه حمد لثلاث سنوات، أو تكشف لي حقيقة ما حصل معه”. وتلفت ياسمين إلى أن روايتها صدرت وشاركت في معرض الكتاب في 23 كانون الثاني/يناير 2019، وهي إلى قصة حمد تتضمن عدداً من قصص رفاق الرحلة اللبنانيين، لعل أبرزهم بنورة أيوب وضاهر شديد وفاطمة مسلماني، وهم من الشخصيات الرئيسة في روايتي، التي أتمنى أن تنال إعجاب المصريين واللبنانيين”، وتضيف: “أحاول أن أقدم مشروعاً توثيقياً في مكتبة الاسكندرية، وقد نظّمنا ندوة في مصر تهدف الى جعل التايتانيك جزءاً من التراث العربي إذ عرضنا فيها قصص اللبنانيين والمصريين، بحيث إنه عندما يزور السيّاح الأجانب مكتبة الإسكندرية وهي من المعالم السياحية في مصر، يطّلعون على أحداث هذه القصص وطموحات أبطالها. لكن المشكلة الوحيدة التي أواجهها، أن المكتبة تحتاج إلى وثائق أصلية، وأنا لا أملك هذه الوثائق، وبالتالي أتمنّى على أهالي اللبنانيين الذين يرغبون في مشاركتي في البحث أن يمدّوني بالوثائق والمقتنيات الأصلية لذويهم لكي أتمكن من توثيق الحكاية”.

إصرار ياسمين سعد على الوصول إلى الحقيقة الكاملة، هو الذي دفعها لإعادة إحياء قصة دُفنت منذ أكثر من مئة عام، فهل تستطيع أن تحدد المكان الذي عاش فيه حمد حسب منذ 103 سنوات، وبالتالي تنتج فيلمها الوثائقي الذي يروي قصص لبنانيين ومصريين كانوا على متن التايتانيك؟