أمستردام: Amsterdam عندما تُحاكي الحضارة والفنون نبض الشارع المعاصر

ميشال زريق- أمستردام 23 فبراير 2019

كثيرةٌ هي المرّات التي نفكّر فيها «لماذا لا نحزم أمتعتنا ونسافر وحيدين؟َ!»؛ فالبعض منّا لا يجرؤ على القيام بهذه الخطوة خوفاً من أن يتسلّل الملل إلى رحلته وإجازته، لكن في الحقيقة، لم أجد وقتاً مملّاً ولا ضائعاً سدى خلال رحلتي الأخيرة إلى أمستردام، فرغم برودة الطقس والحرارة المتدنّية، استمتعت بالسير في الشوارع والأزقّة الضيقة تحت المطر، فهنا استخدام السيارة ووسائل النقل قليلٌ جدّاً وغير مألوف، للسكان والزائرين والوافدين، الذين يطوفون المدينة متنقّلين بين القنوات المائية، سيراً على الأقدام، أو على الدرّاجة الهوائية أو حتى بالزوارق.


الفطور التقليدي

الرحلة إلى أمستردام لها نكهةٌ خاصة، فهي حتماً مطعّمة بروح الفنّ المعماري الأثري والتقليدي، الذي يحضر في كلّ حيٍّ وشارع، واجهات المحال الفارهة والفخمة هنا، كلّها لبست الحلّة التقليديّة، فعليكَ أن تمتّع ناظريكَ بألوان الأبنية وانعكاسها على الماء. إجازتي في أمستردام كانت قصيرة، فقد استمرّت 48 ساعةً فقط، حاولتُ قدر المستطاع أن أجول فيها بين الشوارع وأن أستغلّ كلّ دقيقةٍ، وبداية اليوم الأول كانت مع الفطور التقليدي في Pluk، هذا المتجر الصغير، الحانة، الذي تُصنع فيه الحلويات على اختلافها، وأصناف الفطور التقليدي من البانكيك والأفوكادو مع البيض، وأصناف أخرى من تحليةٍ بحليب اللوز والمكسّرات، والجميل هنا أنّك كما في منزلك، مسؤول عن خدمة نفسكَ، وهذا ما قد يُميّز معظم المخابز والمطاعم الصغيرة في أمستردام، والتي تستطيع أن تكتشف مكان وجودها متتبّعاً رائحة الخبر والحلويات.

دعم المرأة

وبما أنّ المبيت كان في Prinsengracht، رابع قناةٍ مائية في أمستردام، ويعني اسمها «قناة الأمير»- Prince Canal، فركوب القارب حتميّ للانتقال إلى المقلب الآخر من المدينة، حيث كانت المحطة الأبرز في ذلك اليوم، زيارة متحف Rijks Museum التاريخيّ. واللافت في أمستردام، أنّ المرأة العاملة تحظى بتقدير كبير من السلطات المحلية، فقد منحتها الصلاحية في توسيع نشاطاتها ومتاجرها وحيازة رخص قيادة القوارب، وقد شرحت لنا السيّدة التي قادت القارب عن معالم المدينة الأثرية وعن نظام السير في المعابر المائية، لا سيّما أنّ هناك أحجاماً مختلفة من السفن والقوارب السياحية والخاصة بنقل البضائع التي تعبر المياه الإقليمية يومياً، هي التي أمضت أكثر من 25 عاماً في هذه المهنة.

رحلة عبر الزمن

محطة الغداء كانت قبل دخولنا إلى المتحف، حيث اخترنا تذوّق الأطباق التقليدية في مطعم Rijks على مقربةٍ من ساحة Museumplein والتي تحتوي على نموذج عبارة I Love Amsterdam الشهير، والذي يلتقط ملايين السيّاح صوراً إلى جانبه، حتى بات يوازي في الشهرة الملتقى الثقافي هناك. وإذا كنتم من عشّاق اللحوم والبطّ، فهذا المطعم الحائز نجمة Michelin جديرٌ بالتجربة، حيث يعتبر مؤسّسوه أنّه يُكمّل تجربة زيارة المتحف التاريخيّ، من ناحية التذوّق والفنون المطبخيّة بأبعادٍ ثلاثة: التفرّد والنوعية والجودة.

التجمّع في ساحة Rijks Museum الداخلية كفيلٌ بأن يُعرّفكَ إلى أصدقاءٍ وأشخاص تتشارك معهم حبّ الفنّ والمعرفة من جنسيات مختلفة، أرادوا خوض رحلةٍ عبر الزمن لاكتشاف هذا المتحف، الذي أسّسه وصمّمه المهندس المعماري بيار كاوبيرز في العام 1800 في مدينة لاهاي، ومن ثمّ نُقِلَ وموجوداته إلى أمستردام بطلب من شقيق نابوليون بونابرت، الملك لويس، بعد ثماني سنواتٍ، وهو يضمّ أكثر من 200 عمل وتحفة فنّية وآلاف اللوحات لفنانين هولنديين، لعلّ أبرزها لوحة «دا ناخت فاخت» De Nachtwacht، والتي رسمها الفنان رامبرانت فان راين في القرن السابع عشر، فضلاً عن تحف تعود إلى العصور الوسطى وصولاً إلى حقبة الفنّان Piet Mondrian.

حظي المتحف بتقدير عالميّ، حيث احتلّ المرتبة الثالثة على قائمة أكثر المتاحف تقديراً في القارة الأوروبية بعد متحف فان غوغ، المجاور له، والذي نُقِلَت إليه أعمال الفنان الشهير، ويُخبر أحد المرشدين السياحيين أنّ هذا التقييم يستند إلى بحثٍ أجرته جامعة إيراسموس في روتردام حول أكثر المتاحف شعبيةً في أوروبا.

ثلاث طبقاتٍ ومتحفٌ في الطابق الأرضي، كلها تروي حكايات وتكشف أسرار أكثر من 200 عام من الفن والصمود، حيث تمّ تقسيم كلّ طبقة إلى حقبتين زمنيّتين مختلفتين. ولا بدّ من الاستعانة بخريطةٍ على شكل كتيّب تشرح لك أبرز الموجودات، مثل لوحة تجسّد معركة واترلو الشهيرة في الطبقة الثانية، ومجموعة مجوهرات وحليّ يدوية تاريخية في المتحف الأرضي ضمن ما سُمّي بـ«المجموعات الخاصة» Special Collections، ولا تنسَ طبعاً الاستمتاع بموسيقى عازفي الشارع- Street Musicians بعد خروجكَ من المتحف، وهم الموجودون بكثرةٍ في تلك المنطقة.

تجربة فنّية فريدة

بعيداً من الفنون والآثار، وإن كنتَ من محبّي التسوّق، لا ينبغي أن تفوّت فرصة التنزّه في شوارع المدينة المليئة بالمحال التجارية للدور والماركات العالمية، والتي لا تزال تحافظ في شكلها وهندستها على البناء التقليدي من الحجر والحديد والواجهات الزجاجية المقطّعة. وننصحكَ بشراء بعض الجبنة الصفراء، التي يوضّبها لكَ أصحاب المتاجر، فهنا طعم الجبنة مختلفٌ تماماً عمّا قد تتذوّقه في أي بلدِ آخر. ولا بدّ من العودة إلى Andaz للمبيت والتحضّر لليوم التالي؛ هذا الفندق الفاخر الواقع في قلب أمستردام التاريخي النابض بالحياة والمطلّ على القناة الرابعة، يختزن معاني التصميم الهولندي التقليدي في قالبٍ معاصر وحيويّ، حيث أعاد المصمّم المعماري مارسيل واندرز، تحديث واجهة مكتبة أمستردام العامة القديمة، والتي وضعتها الأونيسكو على لائحة التراث العالمي، وحوّلها إلى فندق يحتوي على 122 غرفة وأجنحة ملكية في كلٍّ منها رسوم على الجدران مختلفة عن الأخرى وورق جدران يحكي قصّة من قصص شوارع المدينة. ينقلك المكان إلى

عالم Alice In Wonderland، وهو أحد الرسوم اللافتة على جدران الحديقة الداخلية، فتتدلّى منها العرائش وهي مزيّنة بالتحف والمنحوتات، لتدهشك الثريات الضخمة المتدلّية من الطبقة السادسة وصولاً إلى ردهة الاستقبال. وأكثر ما يلفت انتباهك، الخزفيّات والأواني الفخارية باللونين الأبيض والأزرق التي أضفت جوّاً من السوريالية، لتكسر النمطية مجموعة مؤلفة من 50 قطعة فنية على طريقة الـ Video Art موزّعة في أرجاء المكان وطبقاته، وتختتم تجربة الفندق الفاخر مع وجبة شهية على طاولة الشيف في مطعم Bluespoon النابض بالحياة وسط ديكور مفعم بالألوان، مقدّماً وجبات تقليدية بمنتجات بلدية.

مغامرة... 360 درجة!

اليوم الثاني في أمستردام، كان يجب أن يختصر عدداً من النشاطات، لا سيّما أنّها الساعات الأخيرة في هذا البلد قبل العودة. فاخترنا أن يكون البرنامج أكثر حرّية للاستمتاع بالشوارع وبرودة الطقس وحتى السير تحت زخّات المطر، والوجهة هذه المرّة كانت برج A’DAM Toren الشهير، الذي بات أخيراً مقصد عشّاق المغامرة وروّاد مواقع التواصل الاجتماعي. فعلى سطح هذا المبنى المؤلّف من 20 طبقة، ستعيش تجربة استثنائية، ترفع مستوى الأدرينالين... ستكون معلّقاً في الهواء، على أرجوحةٍ حديد وترى تحتك أمستردام وقنواتها المائية. إنّها تجربةٌ استثنائية لمحبّي هذه المغامرات السياحية، إذ تستطيعون التمتّع بوجبة مميّزة في Moon، المطعم الدوّار قبل التوجّه إلى A’DAM Lookout وعيش لحظات ممتعة، بدءاً من مصعد مجهّز بمعدّات بصرية ومؤثرات خاصة، ستجعلك تجتاز مسافة 100 مترٍ بأقل من 22 ثانية، مروراً بالمتحف التفاعلي الخاص بأمستردام،

والـ 360 degree Sky Deck، حيث ستتمكّن من رؤية المدينة كاملةً من أربع زوايا مختلفة وصولاً إلى تجربة الأرجوحة... ولن أخفي عليكم، فهذه كانت من أخطر المغامرات التي خضتها، إذ إنّني لستُ من محبّي المغامرات، ولكنّ امستردام، بكلّ ما فيها من جنون وتميّز تستحقّ تجربةً مماثلة!

نصيحة للمسافر

تُعتبر أمستردام الوجهة المثالية لمحبّي السير على الأقدام، وتُقدّم أيضاً بعض المكاتب السياحية خدمة تأجير الدرّاجات التي غالباً ما يستخدمها السكّان في تنقلاتهم اليومية.

يُمكنك شراء بطاقة أمستردام، للاستفادة من حسومات ورحلات ومواصلات غير محدودة من خلال سكك الترام والحافلات.

احرص على حجز رحلات القوارب قبل السفر إلى أمستردام، ليتسنّى لكَ التمتّع بأكثر من 100 كيلومتر من القنوات المائية المحيطة بالمدينة.