فنانة متعددة المواهب عبير بالبيد: لديّ طاقة هائلة فرّغتها بين العزف والرسم

جدة: آمنة بدر الدين الحلبي 26 يناير 2020

تجيد فنوناً متعددة، وتملك لغةٌ موسيقيةٌ مميزة، تعزف مفرداتها على نوتة تجمع بين الرقي والإبداع، الخلق والابتكار، تنتظرها الطبيعة لتتحاور معها أو لتعزف لها، وتنشدها سمفونيات لونية ترقّ لها القلوب، وتنشط عصافير الدوري حين تسمعها، لأنها جمعت أبجديات الفن، وحرّكت ساكن الماء في عزفها المنفرد على البيانو. حين انطلقت رؤية 2030 تفجرت صيرورة الحياة من مراقدها، فكسرت حاجز الخوف وكلّلت روحها بقطر الندى وأعلنت العشق للرسم والموسيقى والرقص على مفاتن الهندسة المعمارية بروح الإنسانية. عبير بالبيد هي شابة حاصلة على بكالوريوس في الهندسة المعمارية من جامعة عفت في جدّة، سمعت "لها" عزفها الرائع على البيانو على مسرح الجامعة، فافتُتنت به وأصرّت على محاورتها لتتعرف منها على أسرار هذا العزف الجميل، وكان هذا الحوار الصريح.


- عشق يتنقل بين هندسة معمارية ورسم وعزف على البيانو، كيف جمعت عبير بين هذه الثلاثية الجميلة؟

أنا لم أختر طريقي الفني، لكن فُطِرتُ عاشقةً للفن وظهرت موهبتي الأولى في الرسم، فبدأت أعبّر به عن مكنونات حياتي حين ينتابني الغضب، ومع مرور الزمن تجلّتْ موهبتي بوضوح وأصبحتْ أكثر واقعية، وكبُرت الطفلة في داخلي لتسمع لوتشيانو بافاروتي المغنّي الإيطالي، وأشهر فنّاني الأوبرا، وكنت ذات مرة أسمع أغنية له بعنوان "نيسون دورما" naysun dawrma فسحرتني موسيقاها ورحت أبحث عن الموسيقى الكلاسيكية، ومن ثم عشقت الأعمال الموسيقية لفريدريك شوبان، ولودفيغ فان بيتهوفن، وشوبيرت... وبدأت أقرأ وأقرأ حتى وصلت إلى اللحظة التي ترجمتْ لي زمن الفترة الكلاسيكية للموسيقى الجميلة التي عشقتها، وبيّنت لي أيضاً كيف تطور التاريخ مع الموسيقى وتطورت معه الموضة والهندسة المعمارية.

- كل هذا حدث وأنتِ بعدُ في سنّ الرابعة عشرة؟

على الرغم من وعيي المحدود، كانت روحي ألقة وسبّاقة الى الفَهم. وجدت بيانو بالصدفة ودغدغتُ أصابعه بأناملي فأحسستُ أنني أفهم كل شيء فيه. طلبت من أهلي بيانو، فاشتروا لي واحداً، وبدأت أتمرّن على العزف عليه بمفردي، وكانت غرفة العزف على سطح المنزل، بحيث شكّلت مع الصديقات فرقة موسيقية للعزف في العروض الجامعية، وفي الطابق السفلي بجانب مكتب والدي (رحمه الله) كانت غرفة الرسم، وفي الوسط غرفتي الخاصة، ولم أكن أعي تماماً ما أقوم به، إنما كنت أملك طاقة هائلة فرّغتها بين العزف على الموسيقى والرسم والهندسة المعمارية.

- لماذا درستِ الهندسة المعمارية ما دمت تعشقين الفنون؟

حين رأى فيّ والدي كل هذا الشغف للفنون، اقترح عليّ أن أدرس الهندسة المعمارية لكي أُنمّي مواهبي، لكنني تمرّدت في البداية لأنني أعشق الموسيقى ودراستها وأسعى للسفر لتطوير إبداعاتي الفنية، إلا أنني درست الهندسة المعمارية نزولاً عند رغبة والدي (رحمه الله)، لأنه كان يمتلك رؤية ثاقبة تقول بأن المستقبل لنا نحن الشباب، وسيأتي اليوم الذي نقدّم فيه كل شيء لوطننا.

- كيف سارت الأمور في قسم الهندسة المعمارية؟

سارت على خير ما يرام. لقد لاحظ أساتذتي أنني أمتلك فناً مميزاً، فشجّعوني على ترك الهندسة المعمارية والالتحاق بكلية الفنون، وحين أُهمل بعض المواد الدراسية، كانوا يجدونني في مسرح الجامعة مختبئة بالقرب من البيانو.

- متى يهبط عليك الوحي للرسم؟

كانت ريشتي حاضرة في كل وقت، تارة للشخبطة وتارة أخرى لرسم لوحات أردتُ لها أن تولد، كي أشارك في معارض الجامعة، حين كان الرسم احتياجاً.

- وأيّ احتياج دفعك للإبداع؟

في المرحلة الجامعية أُصِبتُ بالاكتئاب، مما اضطرّني للتوقف عن الدراسة الجامعية، والذهاب إلى مركز ذوي الاحتياجات الخاصة "سأكون" حاملةً معي آلتي الموسيقية "البيانو"، فاستقبلتني مديرة المركز إنصاف القثمي في حصة نشاط مع الأطفال، وهناك بدأت بالتعرف على نفسي من جديد، وفهمت لغتي وأبجديتي الموسيقية، وعزفت الموسيقى مع أطفال تسعى قلوبهم الى الفرح، وتحمل وجوههم ابتسامة عريضة، فتغيّرت نظرتي الى الحياة وعدت إلى الجامعة بعد غياب عنها دام ستة أشهر.

- بمَ شعرت وأنتِ تعزفين مع أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة؟

تفاعل هؤلاء الأطفال بطريقة جميلة مع العزف، واستطعت أن ألمس أرواحهم الطيبة من خلاله، وحين أغيب عنهم لفترة طويلة، كانوا ينتظرونني بفارغ الصبر، واقفين احتراماً لي، فالموسيقى هي بمثابة غذاء للروح والعقل معاً، وخصوصاً لأطفال التوحّد.

- حين تعزفين الموسيقى، تحلّق روحك معها في الأعالي...

أحلّق في المدى البعيد، وأتأمل في طبيعة لا مثيل لها حين تغازل أناملي أصابع البيانو، وأعجز عن وصف ما أشعر به خلال العزف بمفردي أو للأطفال. في العزف أجد نفسي التي كنت أبحث عنها.

- هل وجدتْ عبير نفسها كما تحب أن تكون؟

بين الأمس واليوم، تغيّرت المعادلة برؤية 2030 التي وضعت المرأة السعودية في القمة ومنحتها حرية التعبير عن ذاتها، وأحاطتها بحماية لا مثيل لها، مما شجّعها على البقاء في الوطن وخدمته قيادةً وشعباً.

- كيف تعبّرين عن الفن؟

رقي الأمم برقي فنونها لاعتبارها من أعمدة الحضارة، وإذا عدنا الى التاريخ، نجد حضارات سادت ولا تزال خالدة الى اليوم كالحضارة الفرعونية، وحضارة بلاد الشام وما بين النهرين.

- كيف تمكّنت من الجمع بين الرسم والموسيقى والهندسة المعمارية في آلية عمل واحدة؟

بحثت عن طريقة لجمع المنظومة الفنية من خلال مشروع التخرّج في كلية الهندسة، والذي يحتوي على مسرح ومدرسة موسيقية في مبنى كبير شُيّد على أرض جدّة. حلمت وأخرجت كل حبّي للموسيقى في مشروعي بعزف منفرد على العود من صديقي، ورسمت أنا تلك الذبذبات الصوتية في التصميم الهندسي بآلية موسيقية.

- للموسيقى ذبذبات صوتية تؤثر في الخلايا العصبية وتؤدي الى الاسترخاء، ماذا عن معادلة عبير في التصميم الهندسي بآلية موسيقية؟

وضعت ماءً فيه حبر وقرّبت منه سماعة الغيتار، وبدأ صديقي بالعزف على العود بالمقامات الحجازية، فراحت تتشكل أمامي الذبذبات الصوتية. أخذتُ شكل الذبذبات وبدأت بالبحث على الحاسب حتى خرج لي الشكل النهائي للمسرح وشعرت أنني أكملت تصميم البناء الهندسي، فوزّعت المساحة الهندسية حتى خرج المبنى كاملاً بمسرح ومدرسة لتعليم الموسيقى.

- ما أهم ما يميز تصميم المسرح المعماري؟

الهندسة المعمارية تحتاج الى الشكل والمضمون الجميل في آن واحد، لذا عمدت إلى إظهار المسرح في الليل كتلةً من الطاقة الإيجابية حين يُسلّط الضوء عليه.

- كيف انتهى هذا المشروع؟

انتهى بكل قيمه الفنية، لأنه تشكّل ما بين الذبذبات الصوتية والنسبة الذهبية للعمارة، ولاقى نجاحاً كبيراً في الجامعة.

- هل من علاقة بين الموسيقى والنسبة الذهبية؟

نعم، وتلك العلاقة يجب أن تبصر النور من خلال معرضي في صالة "أثر" الذي أرتِّب له وسيرى النور قريباً.

- من يقف وراء كل هذا النجاح؟

والدي الذي كان يناديني "نجمتي"، إذ لفته عشقي الكبير للموسيقى بعد انتهاء العمل في المشروع، وشجّعني على متابعة كل ما أحب برؤية جميلة، مؤكداً أن عصر الانفتاح سيأتي كما أحب ويكون عصر الشباب، ولا أنسى أيضاً فضل والدتي التي رعت هذا الفن بحبّها وحنانها.

- وهل لا يزال والدك يشجعك؟

صدمني رحيله من دون سابق إنذار تاركاً كلماته ترسم موسيقاها في قلبي، وعزلني عن العالم... إلى أن تدخّلت صديقتي وحثّتني على استكمال ما قاله والدي، فرُحت أرسم وأرسم حتى خرجت من عزلتي ومن صدمتي الكبيرة، لكنني ما زلت أتواصل مع روح والدي التي تحوم حولي كفراشة لتحميني من أي سوء يمكن أن أتعرّض له.

- ماذا بعد العزلة؟

من خلال الرسم المتواصل، بدأ وعيي يتشكل من جديد وتخلّصت من مخاوفي، لأكون أو لا أكون عازفة كلاسيكية وفنانة من الزمن الجميل.

- الموسيقى غذاء الروح والفكر، كيف تحلّق روح عبير مع الموسيقى حين تسمعها؟

الموسيقى تتباين بين الحزن والفرح، بين الصحة والمرض، نظراً لمقاماتها المتنوعة والمختلفة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، مقام "السي ميجر" الذي يعبّر عن النقاء والسعادة بعكس "السي شارب ماينر" الذي يعزفه شوبان وبيتهوفن ويمتلئ غضباً وتمرداً وقوةً، فلكل صوت إيقاعه كما الحروف الأبجدية، وإذا سعينا إلى الثقافة الموسيقية نجد فيها إحساس الغضب والحب والعشق والسعادة والنشوة والرغبات... وربما هناك أحاسيس إنسانية لم نعشها بعد خارج الكرة الأرضية.

- أين ترحل الروح حين تعزفين؟

إلى الفضاء البعيد، إلى بحر الوجود الزاخر الذي لا ساحل له، إلى النقاء الروحي.

- لمن تعزف عبير الموسيقى؟

كنت أعزفها لروحي من أجل تنقيتها، أما اليوم فأعلّمها لطلابي الصغار في مركز "سول"، لأنني آمل أن يخرج الجيل القادم مثقفاً في كل المجالات الفنية. وبما أنني أهتم بالأطفال، أتمنى أن يكون لي دور كبير في تعليمهم.

- ما هي اهتمامات المركز الفنية؟

تعليم الموسيقى الكلاسيكية، والجاز والبوب، بالتعاون مع فريق مثقف تعليمياً وفنياً، ويمتلك مهارات موسيقية.

- بمَ تشعر عبير عندما تعزف الموسيقى؟

الصوت طاقة وذبذبة غريبة. حين أعزف على البيانو، أعزل نفسي كلياً عن العالم الخارجي، وقوة العزل هذه تأخذني في رحلة تأملية وفكرية، فيصبح كل ما أراه محسوساً ومدرَكاً.

- بمَ يفيدك هذا العزل؟

يعطيني قوة كبيرة، ويمنحني جسداً صحياً وفكراً نيّراً، ويغذي مداركي روحياً، لذا أحببت أن أعلّم تلك الطاقة الإيجابية للأطفال.

- الى أين ستصل عبير من خلال تعليم الموسيقى؟

أحلم بإعطاء كل ما أملك من طاقة علمية وفنية لجيل المستقبل، وحلمي كبير لا حدود له، ولا يقف عند التعليم فقط، بل يسعى للتثقيف الموسيقي كي أهذّب نفوس الأطفال فنياً وموسيقياً وهندسياً.

- ما هي رسالتك في الحياة؟

لا أؤمن بتخصّص واحد للإنسان، بل أسعى لتعليم الجيل أن يتخصّص في مجالات عدة ليحقق المزيد من النجاحات. على سبيل المثال، الخوارزمي الذي أبدع في علوم شتى كالفلك والرياضيات وعلم الحاسوب، أي algorithm، ولو استمررنا على النهج نفسه في التفكير لأصبحنا في صدارة العالم.

- من أين لك كل هذه الثقة؟

والدتي أعطتني مساحة كبيرة للتعبير عن النفس، لأنها قارئة ممتازة وتمتلك ثقافة واسعة. أما والدي رحمه الله فقد علّمني تحمّل المسؤولية لأكون أو لا أكون.

- كيف تقرأ عبير الموسيقى الكلاسيكية؟

أقرأها بطريقتين، ووفقاً لكل حضارة. مثلاً بيتهوفن كان يمثّل الحقبة الكلاسيكية، ويعزف للنبلاء، باعتباره من أهم عباقرة الموسيقى في زمنه، وترك إرثاً موسيقياً رائعاً (السمفونيات التسع)، لكن موسيقاه تحمل نوعاً من الغضب. بينما شوبان كان يمثّل الحقبة الرومانسية، وجعل لموسيقاه تأثيراً قوياً في كل أنحاء العالم، ومنحها استمرارية لأمد طويل. لذا، عندما أعزف لشوبان، أذوب في مقطوعاته الموسيقية. فحين نفهم حقبة الموسيقى، ندرك مدى تأثيرها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في تلك الحقبة.

- إلى أي مدى تؤثر الموسيقى في الحياة الاجتماعية؟

الفن والفنانون هم مرآة المجتمع، والموسيقى تُحدث أثراً بالغاً فيه، وتجعل الفنان فطناً ومدركاً لما حوله بشفافية، لأنه يلتقط بسرعة أي طاقة، سواء كانت إيجابية أو سلبية، ومقيّد بفترة زمنية محددة لا يستطيع الخروج منها. حين أعزف مقطوعة، أستمر في عزفها الى النهاية، كما أعزف على لوحاتي بالألوان، فأرسم بسرعة لأنني أملك زمناً محدداً لها.

- حين تغوص فرشاتك في ألوان متعددة، هل تعزفين نوتة موسيقية؟

حين أمسك الفرشاة بين أناملي، أتحرّر حتى من اللون، لأبقى حرّة أمتطي صهوة حصاني الفني السريع.

- هل بدأت بالتأليف الموسيقي؟

ألّفت بعض المقطوعات الموسيقية، وأحلم بالاستمرار في التأليف لأحقق ما أصبو إليه.

- البيانو آلة موسيقية تُصدر نغمات رقيقة تأسر القلوب، متى أسرت هذه الآلة روحك؟

حين سمعت معزوفة شوبان بعنوان "الموسيقى الحالمة رقم 20"، أسرتني وأخذتني الى عوالم غريبة، وسرقت روحي إلى الفضاء واسع الأرجاء، وفي إحدى المرات، تلقيت هدية في عيد ميلادي وجدت عليها صورة للعازف شوبان، وفوجئت بأنه مولود بنفس اليوم 1 آذار/ مارس... فشعرت بالانتماء الموسيقي إليه.

- لكن العزف على البيانو ليس سهلاً، هل كانت لديك مظاهر الفهم العميق للعلامات الموسيقية والنغمات وسرعة الإيقاع؟

روحي هي التي عزفت، ولا أعرف كيف لأنها مَلَكَة، نَمَت من خلال الثقافة المتنوعة والممارسة الطويلة، وكنت حين أشتاق الى البيانو أحتضنه لساعات.

- في أي عمر بدأت عبير بالعزف على البيانو؟

بدأت بالعزف في مرحلة المراهقة، وبدأت شخصيتي الموسيقية تتشكل في ما بعد.

- يتم تمرين الأصابع من دون الالتزام بالسلَّم الموسيقي...

التدريب العضلي مهم جداً باستخدام تمارين معينة، وبعد الانتهاء من التدريب لا يصح غسل الأصابع بالماء إلا بعد مضي 10 دقائق، من أجل الحفاظ على عضلات الأصابع.

- هل تعزفين اليوم على النوتات الموسيقية؟

بالتأكيد، هو إحساس كبير مع علم وثقافة بعد أن ألّفت ثلاث مقطوعات موسيقية، فيها مقدمة ومنتصف وخاتمة.

- بعد رحيل والدك، من تابع المسيرة؟

زوجي أحمد بالحب دعمني وبالمحبة وقف إلى جانبي، وكل امرأة ناجحة تستمد قوتها من رجل عظيم.

- ماذا تقولين للمرأة السعودية؟

لا تخافي من المستقبل، ارسمي واعزفي ولامسي أرواح الطلاب، علمّي أجيال المستقبل فهم نواة المجتمع.