"الحدوتة العصرية" مبادرة جديدة لأطفال أفضل

القاهرة - جمال سالم 09 فبراير 2020

من منا لا يتذكّر "حواديت" قبل النوم التي تبدأ بـ"كان ياما كان... يا سادة يا كرام... في سالف العصر والزمان..."؟! من منا نسي "الحواديت" التي بعض أبطالها إيجابيون مثل "الشاطر حسن" و"السفيرة عزيزة" وغيرهما... وبعضهم الآخر سلبيون ومرعبون مثل "أمّنا الغولة" و"أبو رِجل مسلوخة" وغيرهما؟! لكن هذه "الحواديت" أوشكت على الاختفاء في عالم الإنترنت والفضائيات المفتوحة وضغوط الحياة اليومية... من هنا تأتي أهمية مبادرة "الحدوتة العصرية" التي أطلقتها شابتان واعدتان شغوفتان بـ"الحواديت"، هما آية ضرغام ومها فتحي، اللتان التقتهما "لها" في حوار للتعرف على المبادرة وأهدافها، وبالتالي ناقشت مع المتخصصين كيفية تفعيل المبادرة ونشرها والاستفادة من تقنيات العصر.


عن بداية فكرة المبادرة، قالت آية ضرغام: "الفكرة وُلدت قبل الانطلاقة الفعلية للمبادرة، إذ كانت تدور في رؤوسنا فكرة تعميم القراءة وترغيب الجيل الناشئ بها، مهما كانت أعمارهم صغيرة، وكنا نسوّق للفكرة إلى أن جاء يوم قررت فيه أنا ومها فتحي شريكتي في المبادرة أن نبدأ العمل بالمبادرة فوراً، وبدأنا فعلاً في وضع ترتيبات سريعة واختيار اسم للمبادرة وتحضير أدوات للفكرة، وبالطبع كان ذلك بالاستعانة بآخرين".

أما عن أهداف المبادرة فأضافت آية قائلةً: "ما نرجوه من المبادرة هو رجوع الأمهات والآباء الى القراءة الجيدة وخصوصاً في الكتب ذات القيمة المؤثرة، لينقلوا ما اكتسبوه الى الجيل الجديد، حتى يصبح واعياً وواثقاً بنفسه، يُعتمد عليه في التنمية المستقبلية لقدراته الفكرية، وينشأ سليماً نفسياً، لأن "حدوتة" الصِغر تبني قيماً ومبادئ، وليست وسيلة للتسلية فقط كما يظن البعض".

وعن مدى تجاوب الأسر، خاصة الأطفال، مع المبادرة، أكدت آية: "في الواقع، وجدنا تأييداً واضحاً من الحضور، ولمسنا تأثيراً ظاهراً في الأطفال وذويهم، الذين حرصوا على إحضارهم الى المكان المحدّد مسبقاً. ولا شك في أن تزايد أعداد الحضور لفعاليات المبادرة مؤشر واضح على قبول الفكرة، خاصة في ظل تنوّع الموضوعات التي تطرّقنا إليها، وكان لها أثر إيجابي بالغ زاد من تقبّل الذات عند الأطفال، ووسّع ثقافتهم، لأن "الحدوتة" يجب أن يكون لها هدف نفسي وتربوي وثقافي عند الأطفال".

وعن الفارق بين "الحدوتة" المعاصرة و"الحدوتة" التراثية، أشارت آية ضرغام إلى أن "الحدوتة" التراثية كانت مبنية في معظمها على الخيال، أما اليوم فوسائل التكنولوجيا الحديثة أضاءت جوانب في "الحدوتة" المعاصرة يمكن الطفل لمسها والإحساس بها بعيداً من التخيّل الذي ينأى به عن الواقع، وهذا يعزّز ثقته بنفسه.


طموحات المبادرة

قالت مها فتحي، شريكة في المبادرة: "نطمح الى نشر المبادرة عربياً، لأننا نحلم بتعميمها في كل الدول العربية، وهذا يحتاج الى جهود المهتمين بالفكرة عربياً، وبدورنا ندعوهم للتواصل معنا، للتباحث في الأفكار التي تصب في النهاية في مصلحة الأسر العربية، وخاصة الأطفال".

وعن المشكلات التي تواجه المبادرة، أوضحت مها فتحي أن أهم مشكلة نعانيها اليوم هي قلة الوعي لدى بعض أولياء الأمور، وعدم إدراكهم لأهمية الفكرة وما تحويه من تأثير بسبب الضغوط والأوضاع الاقتصادية المتردّية التي أثّرت سلباً في ثقافتهم، ولهذا نسعى لوضع خطة لزيادة الوعي لدى الأهالي، وهذا يكون بالتعاون مع وسائل التربية والتعليم والثقافة والإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.

وفي ما يتعلق بالخطة المستقبلية للمبادرة، أكدت مها فتحي: "لدينا الكثير من الطموحات التي نسعى الى تحقيقها، ومنها نشر كتب خاصة بالمبادرة تهدف الى تطوير المجتمع وتقويم سلوك أفراده، ومن ثم إقامة مكتبة شاملة يستفيد منها كل من لا يملك هذه الكتب، وكذلك توظيف التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصال ووسائل التواصل في نشر أفكار المبادرة، ومن جهتنا تواصلنا مع الإعلام ووزارتَي التربية والتعليم والثقافة، ونظّمنا فعاليات في رياض الأطفال والمدارس للاستفادة من مبادرتنا، وقد أُعجبوا بالفكرة ومدى تأثيرها الإيجابي في الأطفال، وثمة تفاعلات كثيرة على صفحتنا، والتي عرفنا العالم من خلالها".


جوانب إيجابية

عبّرت الدكتورة ميرفت مرسي، الرئيس السابق للمركز القومي لثقافة الطفل، عن حماستها الشديدة للمبادرة التي تعتمد على "التربية بالحكي"، والتي تساهم في بناء العديد من الجوانب الإيجابية وتعديل السلوكيات والأفكار الخاطئة، وتزويد الطفل بالثقافة، وتقديم الدعم النفسي للطفل الذي يعاني مشاكل نفسية، وزرع القيم الأخلاقية التربوية.

وطالبت الدكتورة ميرفت وزارات التربية والتعليم والثقافة والإعلام والمؤسسات النسوية والتربوية والفنية، بتبنّي تلك المبادرة الهادفة التي يمكن من خلالها الاستفادة من خبرات صاحبتَي المبادرة، بالإضافة إلى الاستعانة بمتخصصين في الحكي لتطوير فكرة "الحواديت" وتطبيقها في الحضانات والمدارس، وقبل هذا داخل الأسرة الصغيرة، من خلال نشر الوعي بأهمية "الحدوتة" لدى الأم والأب، ليس من أجل الترفيه فقط، بل بهدف تعديل سلوك الطفل وتطوير فكره، خاصة أن التكوين الرئيس للطفل يكون في السنوات الأولى من حياته، مما يجعل "الحدوتة" تحقق نقلة نوعية في حياة الأجيال المقبلة إذا استفادت من تطورات العصر.

وأنهت الدكتورة ميرفت مرسي كلامها مطالبةً بإنشاء مزيد من قنوات الأطفال التي تركز على "الحواديت" التي يقوم بتسجيلها متخصصون في الحكي، الذي يُعدّ فناً في حد ذاته، مما يؤدي الى تنمية مهارات الأم والأب في هذا المجال المهم، خاصة إذا تم ربط تلك الحكايات بالواقع الذي يعيشه الطفل حسب مراحله العمرية، حيث يتم إدخال التكنولوجيا الحديثة في الحكايات التي تتناول القيم التي يجب أن يتعلمها الأطفال في سنّ مبكرة جداً.


الأصالة والمعاصرة

أشار الدكتور أشرف قادوس، مدير مركز توثيق وبحوث أدب الطفل، إلى أن تأثير "الحدوتة" يبقى راسخاً في ذاكرة الطفل وعقله الباطن، بعد أن ينمو، حتى أنه قد يشيب على ما تعلّمه في الصغر، من خلال "الحواديت" التي يمكن تطعيمها بكلمات تراثية قديمة، مثل "السلطان" و"الأمير" و"الشاطر حسن"... وغيرها مما يخلق جواً جميلاً يستمتع به الطفل وهو يستمع الى الحكاية، وفي الوقت نفسه الاستفادة من منجزات عصرنا الحديث، وما طرأت عليها من تغيرات يمكن توظيفها في زيادة تأثير الحدوتة وربطها بالواقع الذي يعيشه الطفل المتطلع إلى تعلم التكنولوجيا الحديثة في سنّ صغيرة جداً.

وأوضح الدكتور قادوس، أن مركز توثيق وبحوث أدب الطفل، يولي قضية "الحدوتة" اهتماماً بالغاً، من طريق تنظيم العديد من الفعاليات التي يتم من خلالها سرد أهم النصوص الأدبية والتراثية، التي تصلح لأن تكون "حواديت" يمكن تطويرها لتلائم روح العصر، بمعنى محاولة المزج بين الأصالة والمعاصرة، ولهذا لا بد من أن تكون "الحدوتة" التي تُسرد قبل النوم مبهجةً وتحمل انفعالات هادئة ومشاعر طيبة تؤدي الى حالة من الهدوء والسكون، وتبث الطمأنينة في نفس الطفل، ويُفضل أن تحكى في ضوء خافت.

وأكد الدكتور قادوس أن "حدوتة" ما قبل النوم ضرورية ولها مفعول سحري في نقل العلم والمعرفة في عقل الطفل الذي يُعد صفحة بيضاء تتلقّى كل ما يُقدَّم لها، ولهذا يمكن استثمارها في زرع بعض القيم الطيبة وغرس السلوك السليم والصفات النبيلة، مثل الشجاعة والأمانة والكرم، وكل الفضائل في حياة الأنبياء عليهم السلام، وكذلك الصالحين والمصلحين في التاريخ البشري، بدلاً من سرد الروايات والقصص المبنية على الخرافات والخوف أو القتل، مثل حكايات "أمّنا الغولة" أو "أبو رِجل مسلوخة" و"العفاريت والجن"، وغيرها من "الحواديت" التي تؤدي الى تأثير عكسي في نفسية الأطفال، إذ تزرع فيه الجبن والخوف والرعب في أثناء النوم وفي مستقبل حياته.


سلاح ذو حدّين

أوضح الكاتب الشهير يعقوب الشاروني، رائد أدب الطفل في مصر والوطن العربي، أن الطفل يمر بتجارب عاطفية ممتعة، وتزيدها "الحواديت" متعة، لأنه عندما يجلس على سريره أو على ركبة أمه، وتحكي هي له "حدوتة"، فإن هذا يكون أمراً ممتعاً للطفل ويهيئ له جواً سعيداً في صحبة الكتب والحكايات التي يجب أن تكون قريبة من الواقع، وليست كلها خيالاً جامحاً، لأن الطفل عادةً يصدّق ما يُقال في "الحدوتة"، والتي تعد سلاحاً ذا حدّين، ولهذا يجب توظيف الجانب الإيجابي فيها لتنمية عادة القراءة عند الطفل.

وأشار الشاروني إلى أن "حدوتة" قبل النوم أصبحت للأسف الشديد من السلوكيات التي يتجاهلها الكثير من الآباء والأمهات، في ظل ضغوط الحياة المتزايدة، التي تؤثر سلباً في الصفاء الذهني للأطفال، ولهذا لا بد من توعية أولياء الأمور في الأسرة بأهمية الفوائد والسلوكيات الصحيحة، التي من الممكن غرسها في نفوس الأبناء وعقولهم، من خلال سرد الحكاية الهادفة أو "الحدوتة" الشيقة قبل النوم. وطالب الشاروني الأم بوقفة صادقة مع النفس، والمواظبة على سرد "الحواديت" الهادفة لطفلها، سواء قبل النوم أو خلال ساعات النهار، لأنها ستجني ثمار ذلك مستقبلاً بحيث يصبح خيال طفلها خصباً، وتتوسع مداركه مقارنةً بأقرانه.

واختتم الشاروني حديثه مؤكداً أنه يجب عدم التسليم بأن عمل المرأة، سواء داخل المنزل أو خارجه، يشكّل وسيلة للتنصل من مسؤوليتها التربوية، فـ"الحدوتة" التي ترويها الأم لطفلها قبل خلوده الى النوم تساهم في استقراره النفسي، وتجعل سلوكه قويماً.


عالمية بضوابط

دعت الدكتورة غادة فهمي، سفيرة الطفل العربي في اليونسكو، إلى جعل فكرة "الحدوتة" عالمية، من خلال الاطلاع على تراث الأمم الأخرى في عالم "الحواديت"، وهذا أمر يسير بالتوازي مع التقدم الهائل في وسائل الاتصال والتواصل، مما يجعل أطفال اليوم أفضل حظاً من آبائهم وأجدادهم، وهذا التواصل العالمي يجب أن يكون بوعي للاستفادة من الإيجابيات فقط وتجنّب السلبيات، مع ضرورة المحافظة على الهوية العربية في "حواديتنا" التي لها مذاق خاص.

وأشارت الدكتورة غادة إلى أن "الحواديت" تراث إنساني يجب المحافظة عليه وتطويره ليكون أكثر فائدة، والابتعاد عما يؤثّر سلباً في نفسية الطفل، لأن ما كان يصلح في الماضي لا يصلح في عصرنا هذا، فالتطور سمة إنسانية يجب الاستفادة منها في تطوير "الحدوتة" وجعلها هادفة وأكثر عصرية، مع الاستعانة بالتشويق الذي يجعل الطفل في حالة من الاستمتاع بالحكي، كما يجب أن تغير الأم نبرات صوتها وتعابير وجهها لتتوافق مع كل جملة في الحكاية، مع مراعاة حالة الطفل في بعض "الحواديت"، فبعض "الحواديت" لا تصلح للطفل المعاق، لأنها تزيده إعاقة جسدية وتأزُّماً نفسياً.