أزمة كورونا .. هل تقضي على التفكك الأسري؟ "الزموا منازلكم" شعار الوقاية الذي أعاد الدفء والحوار العائلي

القاهرة- جمال سالم 09 أبريل 2020
"الزموا منازلكم حتى نحاصر كورونا"، شعار رفعته منظمة الصحة العالمية وطبقته دول العالم، للتقليل من احتمالية الإصابة بالفيروس القاتل، مما جعل السلامة في بقاء أفراد الأسرة بمنازلهم ولم شملهم، بعد ان كان كل فرد بالأسرة له عالمه الخاص . فهل تتسبب "كورونا" في عودة الدفء والحوار الأسري المفقود؟. وهل يمكن تحويل الخوف من "محنة " انتقال العدوى إلى بداية جديدة للأسر المترابطة، التي يعيش أفرادها آمال وآلام بعضهم، بدلاً من العيش في جزر منعزلة حتى لو كانوا تحت سقف واحد.

في البداية تؤكد الناشطة الحقوقية نهاد أبو القمصان، رئيس المركز المصري لحقوق المرأة، أنها تحرص على استثمار نصيحة الأطباء بالبقاء في البيت خشية كورونا؛ بالجلوس مع ابنها "إياد" وابنتيها "سهيلة" و"جميلة"، حيث يتم الحوار حول القضايا الشخصية والعامة لفترات طويلة لم تكن متاحة قبل مشكلة كورونا، يمارس الأبناء هواياتهم الفنية، خاصة الموسيقى والرسم والأنشطة، فمثلاً "إياد" يحب الفن جداً والرسم والعزف على الجيتار، فيما سهيلة تحب الموسيقى، أما "جميلة " فهي بارعة في الرسم، وبالتالي فإن الجلوس معاً فرصة ذهبية لتنمية المواهب لدى أفراد الأسرة.

وأوضحت أبو القمصان، أن زوجها الحقوقي الشهير حافظ أبو سعدة، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، يحاول الجلوس معهم قدر استطاعته، نظراً لكثرة مشاغله الداخلية وسفرياته الخارجية التي حد منها وقف رحلات الطيران الخارجية، ويستفيد الأبناء من خبرات الأب والأم والتعرف على رؤيتهما وتفسيرهما لكثير من الأحداث الداخلية والخارجية الخاصة بكورونا، وغيرها بالتفصيل؛ لوجود وقت أطول للجلوس معاً، حيث قلل الوالدان من خروجهما إلا للضرورة القصوى، وتوقف الأبناء عن الأنشطة الرياضية التي يمارسونها، فضلاً عن توقف الذهاب إلى الجامعات، مما أعطى الجميع فرصة للفضفضة وتبادل الخبرات، خاصة أن هناك فارقاً سنياً بين أبنائها يصل إلى خمس سنوات.

وأنهت أبو القمصان كلامها، مؤكدة أنها استفادت كثيراً من الجلوس لفترات طويلة مع أسرتها، حيث تم ترسيخ "روح الجماعة" حتى أنهم جميعاً يتشاركون في إعداد المأكولات والمشروبات، بل وشركاء في كل شيء، وليس هناك معنى للقاعدة التي تقول "الأم هي من تقوم بكل الأعمال المنزلية بمفردها"، بل لابد للكل أن يساعدها ويتعلم منها.


علاج التقصير

أكدت البرلمانية سولاف درويش، عضو مجلس النواب، أنها تحرص مع زوجها؛ رجل الأعمال عماد الشواربي، على الاستفادة المثالية بالجلسات الأسرية في ظل الإجازة البرلمانية والدراسية من الجامعات والمدارس لأولادها «ياسمين» و«عمر» و«محمد» بسبب فيروس كورونا، وتم الاتفاق على برنامج عملي لمحاولة تعويضهم عن فترات الانشغال عنهم خلال الفترة الماضية؛ بسبب وجودها في مجلس النواب، وانشغال زوجها في أعماله الخاصة، بالاستماع لكل ما يشغل الأولاد.

وتشير سولاف، إلى أنهما كزوجين ناجحين في حياتهما العملية؛ يحاولان نقل تجاربهما للأولاد، لأن الحياة تجارب تتوارثها الأجيال، مما يساعد على انصهار أفراد الأسرة في بوتقة واحدة، بحيث يشعر الجميع بأنهما روح واحدة، وبالتالي فإن أي نجاح يحققه أحد أفراد الأسرة يعد نجاحاً للجميع، وقد تعرف الجميع بشكل أكبر على كل ما يشغل أذهان الآخرين، فضلاً عن تخصيص أوقات للترفيه ومشاهدة الأعمال الفنية المحببة لدينا جميعاً، وكذلك تخصيص وقت للثقافة وتنمية المواهب.


الطاقة الإيجابية

تقول سارة طارق، الطالبة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية: "من خلال تجربتي الشخصية، أؤكد أنني استشعرت قيمة الدفء الأسري، لأنه من أساسيات استقرار الحياة الزوجية، لكن للأسف نتيجة كثرة المشكلات والضغوطات عانينا– مثل كثير من الأسر- من قلة الاستقرار الأسري، وزادت فرص الإصابة بالاكتئاب والمشكلات الزوجية.

وأوضحت سارة، أن الإجازة الإجبارية لأفراد أسرتها في البيت أدت إلى توليد الطاقة الإيجابية؛ التي ساعدتهم على الوقاية من شبح الإصابة باكتئاب؛ لعدم التحرك بحرية والخروج والمرح نتيجة البقاء الإجباري في المنازل، لكن هناك جانب إيجابي آخر عايشته مع أسرتها، حيث قاموا باستغلال البقاء في المنزل للترفيه والثقافة؛ من خلال المشاهدة الجماعية للبرامج الثقافية والفنية، ومحاولة الابتعاد عن البرامج المثيرة للجدل والخلاف.


ألبوم الذكريات

يقول أسامة حسين "موظف ورب أسرة": كم هو جميل عودة أبنائي وبناتي إلى أحضاني وأحضان أمهم كما كانواً صغاراً أبرياء بضحكات بريئة، ونحرص أن نجلس سوياً، ونستعيد ذكريات الماضي الجميل يوم أن كانوا صغاراً وكنا شباباً، وأحاول استعادة تلك الذكريات عن طريق المشاهدة الجماعية للأعمال الكلاسيكية القديمة، خاصة المسرحيات والأفلام، ونشاهد "ألبوم الصور الفوتوغرافية العائلية"، منها صور أبيض وأسود، ونعود بالذاكرة والخيال لعشرات السنين.

يواصل الكلام قائلاً: تعد الأسرة أو العائلة بوجه عام هي الانتماء الأول للإنسان، بل إنني أؤكد أنها أساس النجاح لأفرادها، فالإنسان الناجح في حياته– غالباً- ما ينتمي إلى أسرة سعيدة ومستقرة يسودها الود والتفاهم والحوار، ولهذا فإن الحالة الحالية التي تمر بها الأسر إجبارياً بسبب كورونا يجب أن تكون نقطة تحول في حياة الجميع، وأجمل الأصوات عندما يضحك الجميع في نفس اللحظة، وهذه لا فرق فيها بين غني وفقير، لأن العائلة هي الكنز الحقيقي الذي لا يفنى، بل إنها إحدى روائع مخلوقات الله في الطبيعة، لأن الشخص الطبيعي يحتمي بعائلته من أعاصير الحياة، وقد بدأت الإحساس بهذا الشعور من جديد في ظل تواجدنا معاً خوفاً من كورونا.


الغربة الأسرية

العائلة وطن وحياة ونحن بدونها غرباء، بهذه الجملة المختصرة بدأ الطالب الجامعي رامي شاكر حديثه، مؤكدا أن "أقزمة الأسرة" في ظل سيطرة "الأنا الفردية" أفقدها كثير من رسالتها، ولهذا فإن الجلوس معاً– حتى لو بالإكراه– بسبب كورونا أدى إلى تنشيط المشاعر والأحاسيس وروح الجماعة العائلية؛ التي عانت من غيبوبة طويلة خلال السنوات الماضية في كثير من الأسر، حتى أصبحوا "غرباء تحت سقف واحد".

وأوضح شاكر، أنه استفاد كثيراً من التجربة ببث الحياة من جديد في الحرارة الأسرية، التي كانت في غيبوبة ووضعتها كثير من الأسر في العناية، وقال: "شعرت بقيمة دفء العائلة التي نسيتها في ظل انشغالي بأموري الشخصية، وتحقيق طموحاتي الشخصية في الدراسة ثم العمل، والانشغال بالمناسبات الاجتماعية لصديقاتي وأصدقائي، خاصة أن عندي شبكة علاقات واسعة جعلتني أقصر في الجلوس مع أسرتي، أستمع إليهم ويستمعون إلى ما يشغلني، وأستطيع القول بكل قوة "رب ضارة نافعة"، فقد أسهم الخوف من كورونا في جلوسي أطول فترة ممكنة مع أسرتي، وقررت إعادة النظر في انشغالي عنها، لأنه لا يمكن لإنسان سوي التخلص من هذه الصلة التي تربطه بالعائلة.

وينهي شاكر كلامه قائلاً: "كم أنا مسرور من جلستي وسط عائلتي، بل إنها من أسعد الأيام في حياتي، وسأقوم بإعادة ترتيب أولويات حياتي، لأني اكتشفت قيمة الأحضان الدافئة لعائلتي، مما أشعرني بالسعادة الحقيقية في مشاركتنا شعور الخوف من إصابة أحدنا بكورونا، لأننا أصبحنا جسداً واحداً كما كنا صغاراً؛ قبل أن تشغلنا هموم الحياة وطموحاتنا الشخصية، التي جعلتنا نقصر في حق أسرنا، ومن خلال تجربتي أؤكد أن العائلة كنز يجب أن نحافظ عليه".


روشتة السعادة

اقترحت الدكتورة رباب الششتاوي، خبيرة التنمية البشرية وعلوم الطاقة، "روشتة السعادة" لإعادة الترابط والدفء الأسري وقت الأزمات- ومنها أزمة كورونا- من خلال اتباع العديد من الخطوات أهمها: اجتماع أفراد الأسرة معاً في ساعات محددة يومياً؛ بعيداً عن الارتباط بالمحمول والفضائيات، لاستعادة كل الذكريات الأسرية الجميلة التي مرت عليهم طوال حياتهم، مما يسهم في إعادة الدفء الأسري ويمنح طاقة إيجابية للجميع، ويعقب ذلك تحديد ساعات معينة لمشاهدة الأعمال الفنية المتميزة، كالأفلام والمسلسلات والمسرحيات القديمة، خاصة الكوميدي منها، مما يكسر حاجز الملل بين أفراد الأسرة ويكسر أي حواجز بينهم، كما يدخل البهجة في نفوسهم.

وطالبت الدكتورة رباب الششتاوي الجميع بأن يتنافسوا في تطبيق مبدأ "الإيثار"، بحيث يتسابق كل فرد لإسعاد الآخرين، ويتسابق الأولاد لإسعاد الوالدين، مع التأكيد على أهمية دور الأم تحديداً، لأنها رمز الحنان واللمة والاحتواء داخل أسرتها، وبالتالي لابد أن تبدأ بفعل كل شيء محبب لدى أولادها وزوجها.

وأنهت الدكتورة رباب، كلامها مطالبة أفراد الأسرة بالابتعاد تماماً عن الجلوس منفردين، حتى لا يشعروا بالوحدة والإحساس بالحزن، مما يؤدي إلى الانطواء أو استرجاع الذكريات الأليمة، مما يبعث الطاقة السلبية ويسبب الشعور بالضغوط النفسية.

الأسرة المتماسكة

يؤكد الدكتور عبدالوهاب جودة، أستاذ الاجتماع بجامعة عين شمس، أن الأسرة المتماسكة السعيدة هي عماد المجتمع القوي، وللأسف فإن رياح التغيير في عصرنا كادت تعصف بأحلى ما فيها، وهو الدفء والتماسك والحوار، وتسللت إليها أمراض الأنانية والفردية والعناد، فأصبح أفرادها يعانون من التباعد وجفاف المشاعر، بعد أن تحولت الأسرة إلى حلبة مصارعة بدلاً من الجو الأسري الحميم الذي يتصف بالتعاطُف والحنان والاحترام والحوار الودي والبحث عن المصلحة العامة للأسرة والتضحية والتوصل إلى حلول وسط إذا تعارضت المصالح والآراء، فهذا مصدر قوة وعزة الأسرة كما كان الوضع في العصور السالفة.

ويوضح الدكتور عبدالوهاب جودة، أن الإنسان كائن اجتماعي، ولهذا لا يستطيع أي إنسان طبيعي أن يعيش منعزلاً عن الناس، حتى أن المثل العامي عبر عن هذه الحقيقة الاجتماعية بالقول "الجنة من غير ناس ما تنداس"، لأن التواصل بين البشر هو الحياة الحقيقية، حيث يتم تبادل الخبرات المشتركة، فإذا كان هذا بين عامة الناس، فما بالنا بين أفراد الأسرة، التي تعد الوحدة الأولى والرئيسية للنمو والخبرة النجاح والفشل، فلا يمكن أن تفرز أسرة فاشلة أشخاصاً ناجحين في حياتهم والعكس صحيح.


فرصة ذهبية

أكدت الدكتورة وجيهة التابعي، أستاذ علم النفس بجامعة الأزهر، أن تجمع الأسرة– حتى لو كان إجبارياً- بسبب الخوف من كورونا، يعد فرصة ذهبية لن تتكرر في استعادة الود المفقود والتقارب النفسي والبحث عن جو الصفاء العائلي، الذي يتنازل فيه كل فرد عن بعض من أنانيته ومصالحه الذاتية، من أجل جمع الشتات العاطفي والنفسي لأفراد أسرته، فإذا لم يتم علاجها الآن سيكون من المستحيل علاجها مع تقدم العمر ودخول أجيال جديدة في "شجرة العائلة"، سيكونون أقل حرصاً من أهلهم على الدفء والحوار والتواصل الأسري.

عن أسباب افتقاد الدفء الأسري أو الترابط النفسي العائلي في عصرنا، حتى يمكن تجنبها، أوضحت الدكتورة وجيهة التابعي أن من أهم الأسباب انشغال الوالدين الدائم عن أولادهما، وكأن مهمتهما توفير الطعام والشراب والملبس والمصروفات اليومية فقط، ونسي أو تناسى الآباء والأمهات أن العطاء النفسي، والتواصل العاطفي والفكري؛ لا يقل أهمية عن الاحتياجات العضوية، لأنها تجعل الأبناء شخصيات سوية أفضل ينفعون أسرهم ومجتمعهم.

وطالبت الدكتورة التابعي، أفراد الأسرة بالاطلاع على ما يطلق عليه "علم النفس الأسري"، الذي يهدف إلى مساعدة الأسر على القيام بوظائفها بشكل يجعل أفرادها أكثر تفاهما وسعادة، عن طريق إشباع الحاجات النفسية للجميع، كما يقدم معلومات تعاون الزوجين على المحافظة على قوة الترابط الأسري واكتشاف المشكلات والأمراض الاجتماعية وعلاجها.


التنشئة والترابط

يشير الدكتور حسن شحاتة، أستاذ التربية بجامعة عين شمس، إلى أن الأسرة هي النظام الإنساني الأول منذ خلق الله آدم وحتى يوم القيامة، لأنها جماعة من الأفراد تربطهم رابطة النسب، ويتفاعلون مع بعضهم، ويقوم الآباء والأمهات بـ"عملية التطبيع والتنشئة الاجتماعية" للأجيال الجديدة، التي يربط بينها الحب الطبيعي بين الكبار والصغار، أو الأزواج والزوجات مع أبنائهم وبناتهم وأحفادهم، من خلال التنشئة والتعليم والحماية من المخاطر الخارجية، ومنها التأثر بمستحدثات العصر التي أسهمت في "التفسخ الأسري"، مما يجعل استغلال فترة البقاء الاضطراري في المنزل فرصة لا تعوض لاستعادة العلاقات الأسرية القوية المليئة بمشاعر الحب والتواصل والحوار.

وأشار الدكتور شحاتة، إلى أن الدراسات التربوية أكدت التأثير الكبير- إيجاباً أو سلباً- لطبيعة العلاقة بين الأبوين والأطفال، في نمو وقوة أو ضعف شخصياتهم؛ والنمو العقلي واللغوي والاجتماعي والانفعالي لديهم.


وكشف الدكتور شحاتة، وجود علاقة بين أنماط التفاعل في العلاقات الأسرية سلباً وإيجاباً، وبين ما يصاب به الأبناء من اضطرابات، أو ما يتعرضون له من انحرافات سلوكية، أو ما يتمتعون به من استقرار نفسي وسلوكيات سوية، ولهذا فإن جلوس الأسرة مع بعضها لفترة طويلة؛ من خلال الاجتماعات العائلية، له دور رئيسي في تقريب المسافات بين الأب والأم والأبناء، وخلق نوع من الاستقرار الأسري الذي يساعد على زيادة الترابط وفتح منافذ للحوار الأسري بكل أشكاله، الذي يعد همزة وصل بين الآباء والأبناء، وزيادة التفاعل بينهم، مما يصب في مصلحة الاستقرار النفسي والشعور بالمرح والسعادة.