البريطاني الذي رسم العاصمة اللبنانية بأفراحها ومآسيها... توم يونغ: بيروت مُلهِمتي!

حوار: فاديا فهد 19 نوفمبر 2020

يعيدُ الفنّان البريطاني توم يونغ Tom Young رسم بيروت بريشته وألوانه، بأسلوب درامي خاص، يتعايش فيه الفرح والألم تحت سقف واحد، مصوّراً مرونة الروح البشرية في مواجهة المصاعب، وفقدان الذاكرة الجماعية بعد كلّ مأساة. اختار يونغ بيروت مدينة له منذ أكثر من 14 عاماً، "إنها المدينة الأكثر إلهاماً التي أعرفها… تجبرني بيروت على أن أفتح عينيّ وأبقى مستيقظاً لالتقاط كلّ تفاصيلها، وفي الوقت نفسه أشعر فيها أنني أعيش في حلم... فكيف يمكن أن تكون هذه المدينة حقيقية؟". مأساة بيروت الأخيرة، ألهمته لوحات عدّة، وها هو يروي تجربته الفنّية والشخصيّة في هذه المقابلة الخاصّة.


- تختار بيروت مدينة للعيش فيها وترسمها منذ أكثر من 14 عاماً، لماذا بيروت؟ ما الذي يجعلها بالنسبة إليك المدينة المعشوقة؟

بالنسبة إليّ، بيروت هي المدينة الأكثر إلهاماً التي أعرفها. لقد سافرت وعملت في كل أنحاء العالم، لكنني لم أشعر بهذه الحماسة كي أبدع، كما أشعر هنا. الفرح والألم اللذان نعيشهما في هذه المدينة يجعلان منها مكاناً محفّزاً ومتحرراً وصادماً في بعض الأحيان. بيروت تجبرني على أن أفتح عينيّ وأبقى مستيقظاً، وفي الوقت نفسه أشعر فيها أنني أعيش في حلم... فكيف يمكن هذا المكان أن يكون حقيقياً؟ في بيروت نعيش أقصى الحالات الإنسانية، كل الأفراح والأحزان، كلّ القبح، وكلّ الجمال. وبالطبع هناك المُناخ الجميل، واحد من أفضل المُناخات في العالم. كذلك ثمّة ضوء ساحر في بيروت يشدّني كرسّام، وتغيّرات موسمية دراماتيكية تبدعها الطبيعة الخلابة وتوحي لي ألواناً وأشكالاً.


- هل تستطيع أن تصف بيروت في عينيك، بيروتك؟

بمجرد وصولي إلى بيروت، شعرت أنني عشت في هذه المدينة من قبل، كما لو كنت قد زرتها في حياة سابقة كما يقول الموحّدون الدروز. (يبتسم) إنه مجرد شعور… أحب بيروت بحالاتها المختلفة، والطاقة الفوضوية المذهلة التي تسيطر عليها، واللحظات الجمالية الهادئة المختبئة بين الشقوق. عندما كنت طفلاً، عانيتُ مأساة كبيرة في عائلتي، وقد وجدت في بيروت ومآسيها سبيلاً كي أتعرّف على نفسي أكثر، هنا بين جدران المدينة المدمّرة والمباني المهجورة. أحبّ أن أساهم في منح أهل بيروت الذين يعيشون المأساة تلو الأخرى حياةً جديدة، وأن أفعل ما بوسعي لحماية التراث اللبناني الثمين الذي يتعرّض للتهديد، والذي تلقّى للتو ضربةً مدمّرة في الرابع من آب/ أغسطس الماضي إثر انفجار مرفأ بيروت الذي أدّى إلى دمار الأحياء المجاورة. أعرف جيداً ماهية الشعور عندما تُمحى ذكريات عزيزة على قلوبنا في انفجار أو حادثة ما. لذا أشعر أن علاقة شخصية تربطني ببيروت وأهلها.

- كيف تقدّم بيروت للبريطانيين خصوصاً، وللغرب عموماً؟

بيروت هي مدينة التناقضات المجنونة والطاقة المتوقّدة. هنا الضوء الجميل، والناس الودودون والمتعاونون والمضيافون واللطيفون، والتاريخ الغنيّ، والطعام اللذيذ!


- عشتَ بيروت في كل تقلّباتها: سعيدة، حزينة، فرِحة، ثائرة، مجنونة، محجورة ومنكوبة إثر انفجار مرفئها... أيّ بيروت تركت فيك أثراً أكبر؟ ولماذا؟

لقد صدمتني كل هذه الأحداث وألهمتني بطُرق مختلفة. إنها أوقات عصيبة نعيشها. لا أحد يعرف ماذا سيحدث بعد ذلك. لقد أدهشتني طاقة هذه المدينة خلال الثورة، وحزنت كثيراً وشعرت بخيبة الأمل عندما فقدتْ الثورة اتجاهها الأصلي، ولم تأتِ بأيّ تغيير في الوضع الحالي. ثم صُدمت أكثر لرؤية شوارع هذه المدينة فارغةً خلال الحجر الصحّي، على الرغم من أنني شخصياً استمتعت بالهدوء والسكينة والهواء النظيف. ثم كان الحدث الأكثر إيلاماً انفجار المرفأ في الرابع من آب/ أغسطس الماضي. دمّر الانفجار منزلي في الجميزة والاستوديو الخاص بي والواقع بالقرب من مستشفى مار جاورجيوس في الأشرفية. أُصيب الكثير من أصدقائي بجروح بالغة، وبعضهم قضَوا في هذه المأساة. لا يمكنني أن أشعر بأي شيء سوى الغضب، والغضب، والغضب في ظلّ معرفتي أن أحداً لن يعترف بذنبه، ولن يُسمح بأيّ تحقيق يكشف عن الفَعَلة والمسؤولين عن هذه المأساة. يرتبط عملي كرسّام غالباً بعملية الشفاء من الصدمات. وهنا أجد صعوبة في إيجاد طرق للتفكير في كيفية تعافي الناس من هذا الألم الذي أصابهم. حاولت وأحاول أن أعالج صدمتي الشخصية من خلال رسم آثار الانفجار ولوحات مشهدية من صلب المأساة، ومشاركتها مع الناس على أمل أن تكون على الأقل مرآة للمشاعر المؤلمة...

لقد زارني في الاستديو الخاص بي الطبيب الجرّاح البطل أنطوان كرم الذي عالج الكثير من ضحايا الانفجار. وكان يريد شراء لوحة لبيروت المدمّرة، لأنه قال إنها ذكّرته بالكابوس الفوضوي الذي عاشه بعد الحادثة. وهو أيضاً عازف بيانو على مستوى عالمي، لذلك دعوته للعزف في المعرض الذي شاركت فيه في الجميزة وضمّ ٦٠ فناناً وكان هدفه جمع الأموال للصليب الأحمر اللبناني. الفنّ طريقنا كي نتخطّى المأساة ونبلسم الجراح ونكون إيجابيين.  

- أين كنت في الرابع من آب/ أغسطس؟ وكيف عشت المأساة؟

الحمد لله أنني كنت في صيدا في ذلك اليوم، وإلا لكنت في عِداد الموتى أو المصابين...

كنت أعمل على مشروع كبير لتحويل حمّام قديم مذهل في السوق التاريخي في صيدا، إلى مكان يستقبل معرض لوحاتي عن الحمّام نفسه.

عدتُ إلى بيروت فور علمي بالانفجار، لأجد الحيّ الذي أعيش فيه خراباً. كان الأمر أشبه بدخول منطقة حرب كابوسية. الأضرار لحقت بالمبنى حيث أسكن. الزجاج المتناثر والأثاث المحطّم في كل مكان. بقيت بلا مأوى لستة أسابيع، لكنني، ولحُسن الحظ كنتُ أملك مكاناً أذهب إليه في التلال الخضراء بالقرب من صيدا. والآن، تولّى مالك المبنى إصلاح منزلي بالكامل، وعدت إلى الجميزة.


- هل فكرتَ بمغادرة بيروت بعد ذلك الجحيم؟

نعم، لقد مرّت لحظات تساءلتُ فيها، لماذا أنا هنا؟ لكن هذا ليس وقت الهروب، بل وقت البقاء والصمود والمساعَدة. لا يمكن أن أترك مدينة أحببتها وهي تعاني. أريد أن يستعيد أصدقائي بعض المشاعر الإيجابية.

- لا تحبّ أن تحدّد لوحاتك، وكأنك تتعمّد طمس الحدود بين الأشياء والأشخاص... لماذا؟ 

من الجيّد أن تكون لوحاتكِ موحية، وأن تصنعي الفن الذي يسمح لكِ بأن تحلمي بما يمكن أن تكوني عليه، وليس ما هي عليه الأمور فعلاً. الفن يعكس الواقع لكنه ليس حقيقة. إنه وجهة نظر الفنان الشخصية، وقد يكون للمُشاهِد رأي مختلف تماماً، وهذا جيد.

- يطغى الرمادي على لوحاتك، فما السبب؟

أحب نعومة الضوء الضبابي ودقّته. بعض اللوحات ذات ألوان زاهية، لكن الكثير منها ليس كذلك. هناك تأثير مهدّئ ناتج من خلط الكثير من الأبيض مع الطلاء الزيتي. يشبه الرمادي حجاباً رقيقاً للذاكرة ويحثّنا على الحلم. أحاول أن أعبّر في لوحاتي عن إحساسٍ بالحزن الهادئ، والجمال الآسر. ربما أحب اللون الرمادي لأنني من بريطانيا حيث السماء رمادية دائماً.

- "لا وجود للفنّ في التقوقع والعزلة. يفرّقنا الدين وتُباعد بيننا السياسة، لكنّ الفنّ يقدّم لنا طريقاً سلمياً للتعبير…"، هل لكَ أن تشرح لنا وجهة نظرك هذه؟

تجذب المعارض والأحداث الفنّية مجموعة واسعة من الأشخاص بخلفيات ومعتقدات متنوعة. لا يمكن أماكن العبادة أن تفعل ذلك لأنها مخصّصة لهذه الفئة أو تلك من الناس. 

في بلد يعاني من انقسامات طائفية وخصومات قَبلية، نجدنا بحاجة أكثر إلى أماكن للتعبير وتشارُك الخبرات بسلام، وهو ما تؤمّنه المعارض والمنتديات الثقافية. أحبّ أن أُقيم معارضي في مبانٍ قديمة أثرية ملهمة للأطفال من كل الخلفيات، لنقل هذه الرسالة الإيجابية الى الأجيال القادمة، مثل معرضي في البيت الزهري عامَي ٢٠١٤ و٢٠١٥، وفي الفندق الكبير في صوفر عام ٢٠١٨، ومعرضي الأخير في الحمّام الجديد في صيدا.   

- كلمة  أخيرة، حلم أخير...

الحبّ والسلام في كلّ مكان وزمان.