حادثة غيرت حياتي مع عصمت الملحوق

مقابلة, السفارة الباكستانية في بيروت, عصمت الملحوق, زبدة الفول السوداني, رهائن, العمل الدبلوماسي, الخرطوم

23 سبتمبر 2009

حياة الإنسان عبارة عن سلسلة متواصلة من الحوادث التي تؤثِّر في شخصيته كما تؤثِّر في مستقبله. وبعض هذه الحوادث يمكن تصنيفها في خانة العاديات التي تتكرَّر. وبعضها الآخر يكون قوياً ومزلزلاً لدرجة يغيّر معها مجرى الحياة بكاملها، ويقسّمها إلى مرحلتين، مرحلة ما قبل الحادثة ومرحلة ما بعدها.
في هذا التحقيق نستعرض عدداً من الحوادث التي أحدثت انقلاباً حقيقياً في حياة مَن عاشوها، وإذا كان قد غلب على هذه الحوادث الطابع الصادم والأليم فهذا لا يعني أن الحوادث الجميلة لا تترك هي الأخرى أثرها الكبير في حياة الناس. ونبدأ بالقصَّة المروِّعة التي شهدت أحداثها السيدة عصمت الملحوق منذ خمسة وثلاثين عاماً.
لم تنشئ السنوات التي مرّت مسافة بين سيدة الدبلوماسية عصمت الملحوق والرعب الذي عاشته في السودان قبل خمسة وثلاثين عاماً، فعقب اقتحام مسلحين ملثمين تابعين لمنظمة «أيلول الأسود» مقر السفارة السعودية في الخرطوم عام ١٩٧٣، تحوّل الاحتفال التكريمي الذي كان يقيمه حينها زوجها عميد السلك الدبلوماسي عبد الله الملحوق، رحمه الله،  للدبلوماسيين الأميركيين  في الخرطوم بعد انقطاع العلاقات بين البلدين إثر هزيمة ٦٧، إلى مأتم إنسحبت منه الحياة وتكثفت العتمة وساد صمت ثقيل اللحظات الآتية. وقد واجهت عصمت مع زوجها وأطفالها وسفراء ودبلوماسيين آخرين من دول مختلفة صنوف الرعب إلى حد تصفية بعض الرهائن الأجانب داخل المنزل المحاصر وهي كانت اللحظة الأصعب التي ظل دويها يصرخ في رأس المرأة حتى اليوم وكأن الذكريات تمتد وتتسع كلما اتسع هامش الحياة وطال.


مأساة لا تُنسى

لم تغادر صورة الحصار الذي عاشته عصمت ثلاثة أيام بلياليها مع زوجها ورهائن عرب وأجانب ذاكرتها. ينهمر الماضي حزيناً في تعاقب مستمر وعصمت لا تزال تحتفظ بدفق التفاصيل التي عاشتها ووثقتها قبل عامين في كتابها «الدبلوماسية واجهة ومواجهة» الذي تحدثت فيه بأسلوب مشوق وإنساني عن تجربة قاسية أعطت حياتها معاني وأبعاداً جديدة. ورغم قدرة الزمن على التخفيف من وطأة ما نختزنه من آلام، فإن عصمت لا تزال تعيش في خضم التجربة، «فهذا جرح لن يندمل وسيبقى معي إلى الأبد ما دمت حية وما دام طفلي الشاب محمد يتحرك أمامي وهو الذي دفع ثمن تجربة السودان كلها منذ أن وصلنا إلى هذا البلد في مهمة دبلوماسية تتعلق بزوجي، حيث ساهم ارتفاع الحرارة في الخرطوم وتأخر الطبيب عن الوصول إلى إصابة محمد وهو لا يزال طفلا بخلل دماغي. واكتملت المصيبة عندما تسبب انقطاعه عن تناول مادة الكورتيزون أثناء الحصار الذي تعرضنا له  ثلاثة أيام على أيدي المسلّحين إلى ماء أزرق في عينيه أدّى إلى ضعف شديد في بصره.

- لكن ماذا تذكرين على وجه التحديد من تلك التجربة وكيف تتعاملين معها بعد مرور كل هذه السنين؟
أذكر كل ما جرى وكل كلمة قيلت، لا تغيب عني عيون الرهائن القلقة وهم  في طريقهم للمرة الأخيرة إلى القبو ليدفعوا حياتهم ثمنا لأمر لم يقترفوه. أصواتهم المخنوقة لحظة إطلاق رشق ناري كثيف لا أنساها أبداً... روائح الموت ولحظات الخوف... أتذكر كل ذلك وأنا قوية وأتعامل مع ما جرى كدرس علّمني الصبر وقلة الخوف ومعالجة القلق بالإيمان والتضحية في سبيل من نحبهم ومن يحتاجون الى المساعدة في لحظات الضعف وتحديد المصير.

- ماذا أضافت تجربة السودان لك وماذا أخذت منك؟
خرجت منها أقوى أمتلك قدرة على مواجهة الصعاب. شخصيتي تبدلت وصرت مسؤولة أكثر وفخورة أكثر بالدور الذي لعبته تجاه جميع من كان في هذه الورطة، بدءاً من زوجي مروراً بالرهائن الأربعة القائم بالأعمال الأميركي الذي كنا نقيم الاحتفال على شرفه لمناسبة انتهاء مهماته، إلى جانب السفير الأميركي الجديد الذي لم يكن بعد قد تسلّم مهمته، والقائم بالأعمال البلجيكي والقائم بالأعمال الأردني، وصولاً إلى المسلحين أنفسهم الذين تعاطفت مع قضيتهم رغم أسلوبهم الخاطئ في إيصال رسالتهم. لكن في المقابل أخذت مني هذه التجربة  معنى الفرح الذي كان إبني محمد يمثله لي والذي كان ضحية مهمة زوجي في السودان وأدائه واجبه المهني بطلب من حكومة المملكة.

- لو كنت اليوم في موقف مماثل وتحت وطأة الرعب نفسه كيف كنت ستتصرفين؟ ما الذي كنت ستفعلينه ولم تفعليه حينها وما الذي تندمين لأنك فعلته؟
في الواقع كل ما فعلته يومها كان عفوياً، لكن لو عاد بي الزمن ووضعني في التجربة نفسها لقمت بما قمت به تماماً، صحيح أن البعض لاموني على التضحية غير المحسوبة بنفسي فيما أنا المسؤولة عن أربعة أطفال، إلا أنني يومها لم أتصرف بلغة الحسابات وإنما بدافع إنساني ومن منطلق تربيتي وأخلاقياتي التي فرضت عليّ الوقوف مع زوجي في محنته فأبيت المغادرة وتركه يواجه مصيره وحده وكنت مدفوعة بعاطفتي دون أن أحكّم عقلي. وكانت إحدى بناتي هي أول من وضعني أمام السؤال الصعب: «ماذا لو كان مصيرك أنت ووالدي الموت على أيدي الخاطفين يومها؟ ألم تفكري بنا وكيف لنا أن نعيش دون أبوين وما المصير  الذي ينتظرنا»؟ لقد قمت بما أملاه علي ضميري تجاه زوجي والرهائن الأربعة الذين كانوا معنا وتجاه الخاطفين، ولن أبدل في أي تصرف كما لم أندم على أي شيء لأنني فعلت وزوجي كل ما في وسعنا، علما أننا كنا بدورنا مهددين وغير ضامنين بقاءنا على قيد الحياة. وكنت أيضا في قرارة نفسي متأكدة أن الحكومة السعودية سترعى عائلتي إذا أصابنا مكروه أنا وزوجي.

- عندما تسمعين بوجود رهائن محتجزين في أي مكان من العالم ما أول شيء يخطر ببالك، قلقهم خوفهم حياتهم المهددة أم ماذا؟
أعيش معهم الحالة وينتابني الإحساس نفسه المطابق لما شعرت به قبل خمسة وثلاثين عاماً، وكأن السنين لم تمر، أو بالأحرى لم أشفَ بعد مما رأيته من أهوال. لقد تابعت عمليات خطف رهائن كثر  منذ العام 1973 وحتى اليوم، ومع كل عملية تحضرني صورة الرهائن الأجانب الخائفين من لحظة النهاية تاركين أطفالاً وزوجات وأمهات وأحباء كثراً. أرتبك وأتوتر مع كل تفصيل يطرأ على التسويات والمفاوضات وكأن الأمر يتعلق بي مباشرة. أسترجع صورة الجثث الثلاث المنتفخة للرهينتين الأميركيتين والثالث البلجيكي. يدور رأسي من جديد بين غرف فيلا السودان حيث وقع الحادث ويصم أذني أزيز الرصاص الكثيف وهلع الحاضرين وظلمة المكان.

- متى تستحضرين تجربة السودان بشكل خاص؟
في كل مرة أسمع فيها إسم هذا البلد وأرى إبني محمد وأتابع مستجدات القضية الفلسطينية التي كنا نحن من ضحاياها، وأتحسر على ما وصل إليه هذا الشعب رغم نضاله وتضحياته.

- ما رأيك اليوم بما فعله الفلسطينيون معكم في السودان؟ كيف تنظرين إلى الأسلوب الذي اعتمدوه لتحقيق مطالبهم؟
أعتقد أنهم كانوا قادرين على القيام بهذه العملية بطريقة مختلفة ولم يكن ينبغي أن تصل الأمور إلى حد القتل والتصفية. أنا بكل الصور ضد القتل. صحيح أنهم كانوا مجروحين ومتألمين إلا أن ذلك لا يبرر سلوكهم العنفي، كما أنهم كانوا يستطيعون التخطيط لعملية ليس فيها أطفال ولا نساء.

- بعد موت زوجك رحمه الله كيف تستعيدين الحادث؟
لا أخفيك أنه بعدما توفي عبد الله الذي كان شريكي في حادث السودان وواجهنا الحياة معاً بحلوّها ومرّها، صرت أشعر بغربة أنا وبناتي وبعض الضعف وأشعر بأنني مكسورة وبجناح واحد فقط، وأعجز أحياناً عن الوقوف مجدداً رغم أنه علّمني أن لا أكون ضعيفة وأن أتحلى بالصبر. لكن ودون مبالغة أحس بأن حياتي الباقية كلها ستكون حداداً على من كان سنداً ومعلماً وخضنا معا أقسى التجارب وأهمها ما واجهناه في السودان.

- تجربتك في عيون الناس كيف يُنظر إليها بعد خمس وثلاثين سنة؟
يتراجع عادة زخم الأمور مع الوقت، ولكن هناك من يُقدّر التضحيات ويتذكرها باستمرار، فكثيرون يفاجئونني حتى اليوم بسؤالي عما جرى ويثنون على دوري وشجاعتي لا سيما الجيل الذي كبُر وسمع بالقصة، كما أن الكتاب الذي أصدرته وسردت فيه كل ما جرى جدّد الذكرى.

- ما الأثر الذي بقي لدى بناتك حول هذه القصة؟
كلنا نعيشها في الواقع، فأنا نقلته إلى أولادي وهم بدورهم نقلوها إلى أولادهم الذين يتحلقون باستمرار حولي ويطلبون مني رواية التفاصيل حرفيا ويسألونني عن أمهاتهم اللواتي كن حينها أطفالاً، وقد نقل أحفادي القصة إلى أصدقائهم في المدرسة وأخبروهم أنني كتبت رواية وأخذوا الكتاب لمدرسيهم، وهم فخورون بما قامت به جدتهم وبأنها كاتبة ومشهورة...

- علاقتكم بالقائم بالأعمال الأردني الذي نجا معكم من الموت كيف هي وهل تواصلتم مع عائلات الضحايا الأجانب؟
في الواقع لم نرَ منذ ذلك اليوم الدبلوماسي الأردني علمنا أنه ترك العمل الدبلوماسي، ولم أعرف منذ مقتل الرهائن أي شيء عن أسرهم التي أذكر أنهم كتبوا لها رسائل وداعية في منزلنا قبل أن يلقوا حتفهم على أيدي المسلحين.

- هل عدت لزيارة الخرطوم لاحقاً؟
لا أبدا إلا أن كثراً هناك قرأوا كتابي واتصلوا مهنئين، كما اتصلت بي زوجة القيادي الصادق المهدي وأثنت على عملي وعلى الدور الذي قمت به يومها.

- محمد ما هو حاله اليوم؟
محمد يعيش معي اليوم متنقلاً بين بيروت والرياض بعد أن أدركت أخيراً أن الغربة في مدارس بريطانيا لن تقدم له العطف والحب اللذين يحتاج إليهما. علماً أنني كنت دائما خائفة من مغادرته تلك المدرسة خوفاً من أن لا يتحمله أحد فيما لو لم يكتب الله لي أولوالده الحياة. وقد شاء القدر أن يعيش لفترة مع أبيه قبل موته. رآه وجلس إلى جانبه وتودع منه رغم أنه حتى اليوم غير مقتنع بفكرة الموت وفي يقينه أن والده لا يزال في المستشفى يُعالج.

- هل تفكرين بعد وفاة زوجك بالعودة نهائيا إلى بيروت لتعيشي بين أهلك؟
لديّ الكثير من الروابط التي تشدني إلى المملكة والبلدان متعادلان بالنسبة إليّ، ففي الرياض بناتي وأهل المملكة الذين هم أهلي وهنا في بيروت جذوري وأقاربي. لكن ما يشدني أكثر بيروت لأنني أجد فيها فائدة لمحمد لجهة وجود مدرسة متخصّصة في مثل حالاته في منطقة برمانا يشرف عليها ألمان، لكنني لن أقطع مع الرياض وسأبقى أتنقّل بين البلدين.