حادثة غيرت حياتي...شهادة الدكتورة عبلة الكحلاوي

مقابلة, د. عبلة الكحلاوي

23 سبتمبر 2009

المحنة تزيد المعدن الأصيل صلابة وتجعله يضئ شمعة بدلاً من أن يلعن الظلام. الإيمان بالله وقوة الإرادة كانا سلاح الدكتورة عبلة الكحلاوي الداعية الإسلامية الشهيرة للخروج السريع من أجواء الأزمة والعزلة إلى مواصلة الحياة, بل العطاء أيضاً.
الدكتورة عبلة الكحلاوي فقدت زوجها اللواء مهندس ياسين بسيوني أحد أبطال حرب تشرين الأول (أكتوبر), وكما تقول: لولا الإيمان والصبر لفقدت عقلها لكنها عرفت كيف تحول الألم إلى نجاح.
إلتقينا الدكتورة عبلة في القاهرة وكان لنا معها هذا الحوار الذي بدأناه بالسؤال:

- أنت الإبنة الكبرى للفنان محمد الكحلاوي كيف كانت علاقة زوجك بأسرتك قبل أن تتزوجي وما هي المبادئ التي حرص والدك على غرسها فيكم ونفعتك في حياتك بعد وفاة زوجك؟
نحن خمس بنات وولدان وكان زوجي بمثابة الأخ غير الشقيق لإخوتي، ويشاركنا العمل الخيري الذي حرص والدي على غرسه في نفوسنا منذ الصغر حيث كنا نترك بيت الأسرة في الزمالك ونذهب إلى من يسكنون في المقابر ونقدم لهم ما يحتاجون إليه بكل حب وود. وكنا نشارك مع والدي الفقراء في الطعام في المسجد، وكان يأخذنا معه إلى الأحياء الفقيرة حتى نستشعر نعم الله علينا. وفي الوقت نفسه نحاول التخفيف من معاناة الفقراء والمرضى. وهذه المسيرة الخيرية التي غرسها فينا الوالد تواصلت مع زوجي الذي كان بمثابة الذراع اليمنى  لوالدي رغم كثرة الأعباء لعمله في القوات المسلحة.

- كيف تم زواجك؟
قد تتعجّب إذا قلت لك: إنني تزوجت في سن صغيرة من شاب عصامي متدين لم أره قبل الزواج حيث اختاره والدي بعد أن رأى فيه كل المواصفات التي يتمناها في زوج ابنته. وعندما قدمه لي والدي وافقت بعد أن استخرت الله وأردت إرضاء والدي فأرضاني الله في زوجي، فكان أعظم رجل رأيته في حياتي بل إنه كان  هدية من الله لي وعشت معه واحد وعشرين عاماً لست مبالغة إذا قلت إنني كنت أشعر أنني أعيش في الجنة بكل ما تعني الكلمة من معنى، فكان رجلاً حنوناً و كريماً وعطوفاً على كل خلق الله وليس أسرته فقط. وقد رزقني الله منه بثلاث بنات هن «مروة وردينة وهايدي».

- ذكرت أنك تزوجت وأنت صغيرة وأكملت مسيرتك التعليمية في بيت الزوجية فهل كان زوجك يشجعك في طلب العلم؟
لم أكن أزهرية في دراستي وإنما التحقت في جامعة الأزهر بناء على رغبة أبي رغم حصولي على مجموع كبير في الثانوية العامة ورغبتي أن أكون سفيرة، إلا أنني نفذت رغبة والدي والتحقت بكلية الدراسات الإسلامية وأحببت دراستي وتفوّقت فيها إلى أن أصبحت عميداً لكلية الدراسات الإسلامية للبنات. تعلمت من زوجي -رحمه الله- الكثير وكان نعم  العون لي في استكمال مسيرة تعليمي حتى حصلت على ماجستير وموضوعها «الشورى قاعدة الحكم الإسلامي» ثم الدكتوراة وواصلت بعد ذلك مسيرتي العلمية حتى وصلت إلى عمادة كلية الدراسات الإسلامية وتخلل ذلك قيامي بالتدريس في السعودية.

- نادراً ما نرى زوجة تبدع شعراً في زوجها ولكن هذا ما حدث معك حيث قلت فيه شعراً سواء أثناء مشاركته في حرب أكتوبر أو قبلها وبعدها إلى هذه الدرجة ملك عليك حياتك؟
لست مبالغة إذا قلت إنني كنت متيمة به في قصة حب تفوق قصص الحب التي خلدها التاريخ مثل قيس وليلي أو عنتر وعبلة حيث كنت أحب فيه كل شىء الرفق والحنان معي أنا وبناتي وفي الوقت نفسه الحزم وقوة الشخصية في عمله بالقوات المسلحة حيث كان يغيب عنا أحياناً بسبب ظروف الحرب ومقدماتها، ومع هذا كنا نشعر أنه معنا يدبر لنا أمور حياتنا ونستشيره فيها. وكان يقدم لنا النصائح الصائبة لدرجة أنني تخيلت أنه لا يمكن أن أدير حياتي بدونه ومن شدة حبي له أنشدت فيه شعراً وكنت قد كتبت ديواناً شعرياً عن مصر سميته «في حب مصر» حيث  كان الحس الوطنى يتملكني وكتبت عن حبى لزوجى الكثير من القصائد، منها قصيدة كتبتها عند ذهابه إلى الجبهة قبل حرب ١٩٧٣ أقول فيها:

مصاحب طيورك المهاجرة

 وحفنة من ذكريات القاهرة

 مسافر بلا رفيق

لكنني حملت في حقيبة القلب الوحيد هشيما

أيامنا وأوراقنا المبعثرة

لا تبك أنت

فكل دمعة تركتها تضيء فى سماء البيت

رأيت مهجتي كأنها يمامة مسافرة

 تبكى برعشة الجناح

تطوى على جراحها الجناح

وبعد أن رحلت يا دموعي

رجعت أنزع الظل القديم وحش الطريق

بالله كيف سافرت عيناك فى الربيع.

- ما تأثير صدمة الفراق على حياتك؟
خبر وفاته كان صدمة في حياتي حيث إنني ظللت فترة طويلة لاأصدق أنه توفي وترك لي بناتي الثلاث. ولولا إيماني بالله لأصابني الجنون من شدة حبي له وحزني عليه ولكن شدة  الإيمان بالله ووجود أسرتي بجانبي خففت عني الصدمة خاصة أنني أري أمامي ثمرة عشرتي معه وهي بناتي الجميلات اللواتي نذرت حياتي لهن حتى يحقّقن أحلامهن في الحياة وأحقق لروحه الطاهرة ما كانت ترجوه لبناته من التفوق في كل شىء ابتداءً من التفاني في خدمة الطبقات المطحونة من الأطفال والأرامل والمطلقات والأيتام والمرضى وصولاً إلى المثابرة في طلب العلم.

- كيف كانت نظرتك للحياة بعد أن فقدت زوجك؟
كدت أشعر بالضياع لولا ثقتي الكبيرة في الله حتى أنني كنت أبكي كثيراً وأقول لبناتي: «إن الله لن يضيعنا ولن يخذلنا أبداً بشرط أن نثق فيه ونكون معه وإذا كان الله معنا فماذا سيخيفنا» وبلغ من شدة حزني عليه أنني كنت أراه في المنام بكثرة وفي رؤى مبشراً لأنه كان من الصالحين والمجاهدين، وقد ترك فراغاً كبيراً في حياتي إلا أنني استعنت بالله وواصلت الحياة بتحقيق كل ما كان يريده سواء لبناته أو حبه للعمل الخيري.

- وكيف ربيت بناتك؟
ربيت بناتي على أن يكن رجالاً في تسيير أمور حياتهن وأن يعتمدن على أنفسهن وعندما تكون هناك مشكلة تواجههن يرجعن إلىّ للاستشارة: ولهذا استطعت بفضل الله وتوصيات زوجي التي تعلمتها منه أن أجعل بناتي يقدن مسيرة العمل الخيري بأنفسهن ولايعشن في برج عاجي وإنما يندمجن في الحياة ويعملن على التخفيف من معاناة البائيسين، ولهذا أنشأت بالتعاون مع أهل الخير جمعية «الباقيات الصالحات» وعلمت بناتي أنه لا يبقى من الدنيا سوى العمل الخير لذا علينا أن نعمر الآخرة كما عمرنا الدنيا وأن نجعل لأنفسنا نصيباً من رزق الله فالمدخرات الحقيقية لنا هي الباقيات الصالحات على تنوعها، من هنا جاءت فكرة الجمعية وعلينا أن نعمل بجد وإخلاص حتى نكون ممن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس).

وكنت أتذكر وصية زوجي لي بأن خير ميراث هو العلم وعمل الخير ولهذا فإنني رأيت في هذه الجمعية تحقيقاً للثلاثية الذهبية التي أرشدنا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية و ولد صالح يدعو له وعلم ينتفع به».

- وإلى أين وصلت بناتك في التعليم؟
وفرت لهن كل وسائل التفوق والاعتماد على النفس لأن الدين يمكن خدمته بالعلم على أفضل وجه وأتذكر هنا جملة كان والدي - رحمه الله - يرددها لي أنا وأشقائي: «عرفت الله بالحب فاعرفوه أنتم بالعلم» وهذا ما طبقته مع بناتي الثلاث وأولهن الدكتورة  «مروة» الأستاذة بكلية الإعلام جامعة 6 تشرين الأول/أكتوبر والثانية المحاسبة «ردينة» خريجة تجارة وإدارة أعمال وحصلت على دبلوم في معهد الدراسات الإسلامية في الشريعة وتعد نفسها لتكون داعية إسلامية ليس في مصر فقط بل في الدول التي ترافق فيها زوجها الذي يعمل في السلك الدبلوماسي وسبق أن سافرت معه إلى المكسيك وكينيا ومارست الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين هناك وليس بين المسلمين فقط، والصغرى «هبة الله» أو «هايدي» تدرس في كلية الصيدلة وأنا دائماً أصف زوجي وبناتي أنهم المنحة إلالهية الكبرى لي.

- ماذا تقولين لمن فقدت زوجها واسودت الحياة في عينيها؟
أقول لها الموت علينا حق وقد قال الله في القرآن لرسوله صلى الله عليه وسلم: "إنك ميت وإنهم ميتون" فكل مصاب بعد موت الرسول يهون فالمهم أن نبدأ الحياة من جديد ولا نستسلم لليأس لأنه لا يأس مع الحياة وأن إرضاء الله ثم أرواح من نحب تكون بنجاحنا في الحياة وعمل الخير وإسعاد الآخرين. وأقول لمن فقدت عزيزاً عليها : ضعي هدفاً لنفسك لو اشتغلت لجمالك فهو زائل وإذا عملت للشهرة فهي زائلة واحرصي على أن يكون عملك لرضا ربنا وأن تكون لك رسالة حتى تكوني من الباقيات الصالحات اللائي يفزن بالدنيا والآخرة وتفيدي نفسك والآخرين والإنسان في حياته يجب أن يسعى دائماً إلى أن يعمل أعمالاً تبقى له بعد موته سواء في ماله أو في عمله أو في موهبته.