نساء غزة أصبن بإشعاعات نووية؟

تحقيق, مرض السرطان, قتل, قضية / قضايا الطفل / الأطفال, المجتمع السعودي, التوتر, الخوف, إختصاصي نفسي, غزة, جريمة قتل, نساء غزة, إشعاع نووي, قصف, تدمير, جرحى, مصابون, الحرب الاسرائيلية, مواد سامة, الفوسفور الأبيض, اعاقة المولودين, د. حسن اللوح, مستشفى

09 نوفمبر 2009

على مدى ثلاثة أسابيع كان الخوف سيد الموقف في حياة أم عبد الله النخالة... قصف. تدمير. قتلى وأنين. جرحى ومصابون... مشاهد جعلت أم عبد الله عاجزة عن اي فعل ومحتارة ما بين حماية أبنائها بجسدها وبين حماية جسدها وما يحمله لها من بشائر السعادة... هذه البشائر التي تنتظرها كأي أم على وجه الكرة الأرضية. لكن أم عبد الله النخالة، كبقية نساء بلدها ممنوعة من السعادة و محظور عليها ان تحلم بمستقبل فرحة الأطفال. ولأنها فلسطينية فممنوع عليها حتى ان تغمض عينيها للحظات لترسم صورة طفلها الذي ما زال جنينا يتكون في احشائها... ورغم الخوف الذي لم يتركها للحظة وابقاها متيقظة، حذرة، وقلقة في ان واحد، كانت أم عبد الله كأي أم فلسطينية تبذل كل جهد لتحمي أبناءها وتخفف من خوفهم مع كل قصف مدفعي أو صاروخ اسرائيلي تعرضت له غزة في الحرب الأخيرة، وفي الوقت نفسه لا تريد لهذا الخوف ان يساهم في فقدانها جنينها ونجحت أم عبد الله في هذه المهمة.

انتهت الحرب وتنفست تلك الأم الصعداء. فابناؤها بخير وجنينها أيضاً، وهذا وحده كان يكفي لأن تخيم السعادة على كل لحظة تعيشها... لكن.

هذه سعادة موقتة ستنتهي مدتها في اللحظة التي كان يفترض ان تصل  فيها الى ذروتها، في لحظة ولادة ابنها، فالولادة لم تتعثر والجنين على قيد الحياة لكن الصمت الذي شهدته الدقائق الطويلة الأولى بعد الولادة ادخل الرعب الى قلب أم عبد الله فالطفل لا يبكي وحركته غير اعتيادية... «قلب ابنك غير مكتمل. قد يفارق الحياة في أي لحظة... للأسف الطب في غزة يعجز عن معالجة مثل هذه الحالات». هكذا ابلغها الاطباء ليحترق قلبها ألماً على فلذة كبدها الذي سيسجل كحالة نادرة وغير مسبوقة في تاريخ الولادات بين الشعب الفلسطيني. فابنها يعاني من عدم اكتمال نمو القلب. لا يوجد له بطين أيسر. لا يضخ الدم للجسم بسبب انسداد الصمام والشريان الرئيسي.

أم عبد الله واحدة من خمس امهاتٍ تعرضن لهذه الصدمة النفسية بعدما انجبن اطفالا يعانون عاهات في القلب لم يسبق ان شهدتها مستشفيات غزة. وما السبب في ذلك؟ لا أحد يعرف بالضبط. لكن كثيرين في غزة يقولون ان السبب  يعود لتعرض المنطقة خلال الحرب الاسرائيلية الأخيرة لاسلحة  تشمل مواد سامة أبرزها الفوسفور الأبيض. وقد تجاوزت أخطار هذه الاسلحة اعاقة المولودين فلوحظ ارتفاع غير مسبوق في نسبة إجهاض النساء اللواتي كن حوامل خلال الحرب. احدى هؤلاء الضحايا عزيزة نبهان التي تقطن في شمال قطاع غزة، فقد فوجئت في الشهر الأخير لحملها ان جنينها ميت رغم حرصها على اجراء جميع الفحوص المطلوبة طوال فترة الحمل ومراجعة الطبيب. وقد أكد أكثر من طبيب في مستشفى الشفاء في غزة ان حالات وفاة الأجنة والمواليد تزداد منذ انتهاء الحرب على غزة.

وكما أكد رئيس قسم الولادة د. حسن اللوح فإن الارتفاع المتواصل في حالات الوفاة لم يسبق ان حصل من قبل والأخطر من ذلك، الاحتمال الكبير لحدوث تشوهات لدى أجنة ومواليد خلال الفترة المقبلة أيضاً.

وبرز بين التشوهات إنجاب أطفال من دون دماغ. وبحسب المسؤولين في قسم العناية المركزة في مستشفى الشفاء في غزة فإن القسم لم يشهد من قبل مثل هذه الحالات، فقد أنجبت امرأتان في يوم واحد طفلين من دون دماغ. وبحسب الممرضة في قسم العناية المركزة، رشا فضل، فإن حالات غريبة جداً تظهر على المولودين بينها ولادات بفتحة أنف واحدة وأخرى تعاني من فتحات في سقف الحلق. وتقول: «في الحقيقة شاهدنا حالات كان شكلها أحياناً مخيفاً وهو أمر لم نعرفه من قبل. غالبية التشوهات والعيوب الخلقية التي كانت تأتي قبل الحرب هي فقط وجود ماء في الدماغ، لكننا الآن أمام حالات نادرة الحدوث».

ولفت اللوح  إلى أن حالات الإجهاض بين النساء الحوامل ارتفعت بنسبة ١٠٠٪ فحصلت ٦٣ حالة إجهاض خلال الحرب بسبب الخوف. وقال: «في أشهر وسنوات ماضية لم تحدث حالات إجهاض بهذا العدد، إضافة إلى وجود أجنة ولدت بتشوّهات لم يتم تحديد أسبابها لعدم وجود مختبرات ومعدات وأجهزة».

التأثير النفسي للحرب يدفع نحو التطرف

ازاء الوضع الخطير الذي تعرض له سكان غزة خلال العدوان الأخير، فإن الصدمات النفسية ما زالت تنعكس على نسبة كبيرة منهم. وقد أعدت أكثر من اطار فلسطيني برامج للتأهيل النفسي في محاولة لتفادي تأثير الوضع الحالي على نسبة كبيرة من الفلسطينيين مستقبلاً. ويؤكد الاختصاصي النفسي، سمير زقوت، من برنامج غزة للصحة النفسية، ضرورة تنفيذ برامج تأهيل بشكل مدروس ومكثف لمنع حالات خطيرة مرتقبة في ظل الابعاد الخطيرة للحرب الأخيرة على غزة.

وحسب زقوت فإن الصدمة الأخيرة الناجمة عن حرب غزة تختلف عن الصدمات السابقة حيث وقعت الحرب في وقت كان السكان فيه يعانون حالة حصار رافقتها تهديدات من الاسرائيليين بتعرض الفلسطينيين لما لم يحسبوا حسابه «جعل الخوف يسيطر على الفلسطينيين مما ينتظرهم من هذه الحرب».

وشارك زقوت مع مجموعة أطباء في جولات على عائلات فقدت أعداداً كبيرة من أفرادها.  وبحسبه فإن تأثير الصدمات النفسية انعكس على جميع أفراد العائلة التي تعرضت للقصف ويقول: «تقلقنا اليوم التاثيرات بعيدة المدى  للحرب الأخيرة  على بنية المجتمع والأسرة الفلسطينية في قطاع غزة حيث ستنعكس على نظرة الناس الى الحياة من خلال توقعاتهم للمستقبل. والواضح انه  في كثير من الحالات ستكون النظرة  قاتمة بحيث لا يجد أحدهم معنى لهذا المستقبل ولا أمل بأن يكون أفضل مما كان عليه قبل الحرب، وهذا بحد ذاته سيؤدي الى  المزيد من العنف والتوتر والانقسام في المجتمع الفلسطيني لأن هذه العملية تؤثر في حياة الانسان ومستقبله وحياته الاجتماعية، وتتولد لديه الرغبة في الجنوح نحو المجموعات الصغيرة والمتطرفة اكثر في محاولة  لحماية نفسه».

ويشرح زقوت تأثير استخدام الأسلحة السامة على نفسية السكان بناء على الجولات التي قامت بها مجموعة من الاختصاصيين النفسيين التابعين لمشروع غزة للصحة النفسية  بين شريحة كبيرة تعرضت للفوسفور الأبيض، ويقول: «ما تبين بعد الحرب ان اسرائيل استخدمت الفوسفور الأبيض واليورانيوم المخصّب في بعض مناطق شمال غزة، وهو عبارة عن مادة اشعاعية تؤثر على الناس بشكل خطير. وضمن الحالات التي اكتشفها الأطباء بين سكان غزة ظهور ما يسمى بـ «حالات هجمة القلق»، وهي حالات نفسية تجعل الإنسان يشعر بقلق دائم يؤدي الى سرعة في خفقان القلب والشعور بالإختناق وبإقتراب الموت منه، وبالتالي تؤدي هذه الحالات الى انعزال المصاب  عن الناس وخوفه من الخروج من البيت خشية أن يصاب بحالة الخوف هذه بين الناس. وفي معظم الحالات، يفقد هؤلاء الناس  تعليمهم وعملهم  وهذا بحد ذاته يزيد وضعهم النفسي خطورة».

ويشير زقوت الى ظهور «الصدمة الثانوية»، وهذه منتشرة بين نسبة كبيرة من الفلسطينيين الذين شهدوا حالات قتل جماعية لاقاربهم أو جيرانهم. وفي هذا النوع من الصدمات يشعر المصاب  بفقدان الأمان، والاصعب من هذا، انتظاره الصدمة المقبلة، وهنا يكون الوضع أصعب.

ويتابع زقوت الحديث حول نوعية هذه الصدمة ويقول: «تكمن الصعوبة في هذه الحالات بما ترافقها من ظواهر خوف وقلق في انتظار الصدمة المقبلة، فالواضح ان الشريحة التي تتعرض للحرب تكون في مرحلة الصدمة الأساسية في أثناء الحرب منشغلة بتطوراتها وهذا يساعد على الهروب من الواقع والتفكير بأخطاره. لكن في حال انتظار الصدمة المقبلة فإن حالة الترقب والقلق والتفكير والخوف تكون مسيطرة على كل لحظة في حياتهم، وهذا هو وضع الغزيين اليوم.  فإنهم يحتقنون غضباً ولأتفه الأسباب يختلق الواحد منهم المشاكل، او انه يعجز عن حل المشاكل وبالتالي نلاحظ ارتفاعاً في حالات العنف والاعتداءات. وأحياناً يكفي ان يقع خلاف بين طفلين ليتطور الى شجار بين الكبار وينتهي بإصابات خطيرة».

من غزة الى تشيرنوبيل

تشير الإحصائات الى ان ١٠ في المئة من جرحى حرب غزة يعانون إعاقات مستديمة، فيما أظهرت دراسة أعدها مركز اعلام ومعلومات المرأة في قطاع غزة ان الحرب الأخيرة على القطاع قتلت ١٢٠ امرأة وأصابت ٧٩٢ أخرى معظمهن يعانين من إعاقات.
وسجلت ١٢٠ حالة وفاة مواليد وأجنة بعد فترة قليلة من الحرب موزعة ما بين  ٣٧ حالة وفاة في الشهر الأول حتى الخامس في أرحام أمهاتهم. ٥٣ حالة وفاة لمواليد وضعوا بين السادس والثامن. ٢٠ حالة وفاة لمواليد في الشهر التاسع من الحمل. وقال الدكتور جهاد حسين، الإختصاصي في قسم العناية المركزة لحديثي الولادة في مستشفى الشفاء بغزة، إن حالات العيوب الخلقية لحديثي الولادة ازدادت بشكل ملحوظ في قطاع غزة وبلغت ٢٠ حالة، في وقت لم تكن تلاحَظ قبل ذلك إلا حالة أو اثنتان في العام  الواحد. وراى حسين علاقة مباشرة بين هذه الحالات والقنابل الفوسفورية التي ألقتها إسرائيل خلال حربها على غزة لكن دون تأكيد نهائي.

منذ ظهور حالات الولادة النادرة في غزة وارتفاع نسبة الاجهاض أو وفاة الاجنة والمواليد، شدد المختصون الفلسطينيون على ضرورة اجراء تحقيقات لكشف حقيقة هذه الظواهر التي تنذر بخطر مستقبلي على شريحة كبيرة من الأطفال الفلسطينيين. وفي أولى الخطوات التي أجريت نُقلت ١٢ مادة سامة عثر عليها في أماكن القصف الاسرائيلي الى مختبرات دولية في روما وباريس. وبحسب المسؤولين الفلسطينيين فإن مدراء المختبرات رفضوا بداية تسليم النتائج لأنهم يعتقدون ان المواد احضرت من مناطق تعرضت لمواد نووية، ما يؤكد استخدام اسرائيل لهذه الأسلحة المحرمة دولياً التي تؤدي الى تفتيت خلايا أجساد المصابين بشكل غير اعتيادي وبتر أجزاء منها، فيما ملامسة مادة الفوسفور الأبيض واستنشاقها يؤديان الى احتراق الجسم بشكل خطير للغاية، وفق المختصين الفلسطينيين.

وبحسب  الدكتور هيثم مناع منسق التحالف الدولي لملاحقة مجرمي الحرب الدوليين، فإن تلك المختبرات اعتقدت أن الفلسطينيين جلبوا تلك العينات من المناطق التي وقع فيها التسرب النووي لمفاعل تشيرنوبل وليس من قطاع غزة، مما آثار ذهول الأختصاصيين والخبراء، مؤكداً أن تلك العينات جمعت من سيارات الإسعاف الفلسطينية التي كانت تنقل الجرحى والشهداء من أماكن القتال.

إدمان الأدوية المهدئة

أدت حالات التوتر الى لجوء عدد كبير من أهل غزة الى تناول الفاليوم أو الترامال، ووصل الأمر الى حد إدمان كثر لهذه النوعية من الأدوية المهدئة.

ومن ظواهر تاثير الحرب في سكان غزة ارتفاع نسبة خلافات العائلات خاصة تلك التي فقدت شهيداً، حيث يلاحظ حالياً وقوع خصام بين عائلتي الزوج الشهيد وزوجته خاصة العائلة التي تحصل على مخصصات شهرية بسبب استشهاد زوجها. وفي واحدة من الحالات أجبرت عائلة الزوجة ابنتها على ترك أطفالها لدى عائلة جدهم، والد الأب الشهيد، وانتقالها للعيش عندها بسبب رفض عائلة الزوج أن تتحول مخصصات الشهادة لعائلة الزوجة.

وينذر زقوت من خطر عدم حصول الذين تعرضوا للصدمات النفسية على علاج جذري لأن  تأثير ذلك بعيد المدى ويهدد مستقبل المجتمع الفلسطيني.