مافيا تزويج القاصرات في مصر... خبايا وأسرار!
إرتفاع ضغط الدم, الزواج العرفي, قضية / قضايا الطفل / الأطفال, زواج مسيار, جريمة, زواج مبكر, مافيا, د. سعاد صالح, جامعة الأزهر, زواج القاصرات, تسمم الحمل, مافيا تزويج القاصرات, زواج شرعي, زواج المتعة, ترهيب, ترغيب, د. عزة العشماوي, د. أحمد حسين, د. غر
13 يناير 2010 استغاثة حضرة الناظر
في الحجرة الصغيرة المخصصة لخط المشورة الأسرية، يجلس الدكتور أحمد حسين الذي يحمل بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر، لتلقي البلاغات والرد على الاستفسارات. ويقول: «بلاغات زواج الأطفال تأخذ منا مجهوداً كبيراً، لأنها تتطلب التنسيق مع عدة جهات ومؤسسات مثل المستشار القانوني للمجلس والنائب العام ووزارة الداخلية في بعض الأحيان، تماماً كما حدث في البلاغ الذي تلقيته من ناظر مدرسة إعدادية في الإسكندرية، يطالبنا فيه بسرعة اتخاذ التدابير اللازمة لوقف كارثة تزويج إحدى تلميذاته، رغم أن عمرها لم يتجاوز ١٦ عاماً.
أبلغت رؤسائي في وحدة «مناهضة الاتجار بالأطفال»، فبدأوا تحركاتهم ونجحوا بالتعاون مع وزارة الداخلية في الوصول إلى الطفلة، لكن بعد فوات الأوان، فقد تم الزواج بالفعل لأن البلاغ جاءنا متأخراً، فاكتفينا بتوعية أهل الزوجة والزوج وطلبنا منه تأجيل الإنجاب حتى تبلغ الطفلة السن القانونية، وأسندنا مهمة المتابعة إلى جمعية حقوقية مهتمة بالطفولة».
وتعتبر مافيا المأذونين الاكتشاف الأبرز في حياة الدكتور أحمد المهنية، فيقول: «تمكنت من خلال عملي بالخط من وضع يدي على شبكة من المأذونين المزورين، توثق العقود للقاصرات بشكل غير شرعي، الى درجة أن أفراد هذه الشبكة يتبادلون الوثائق المختومة بخاتم شعار الجمهورية، مما يؤكد أن لهم شركاءً في أروقة المحاكم، يتقاسمون معهم الأتعاب».
تقييد المباح
رغم اعترافها بأن الأصل في الشريعة أنها لم تحدد سناً لزواج المرأة، فإن الدكتورة سعاد صالح ـ عميدة كلية البنات جامعة الأزهر سابقاًـ تؤكد أن الأصل في الزواج هو أن تكون المرأة مستعدة لتحمل مسؤولية الأسرة وتربية الأبناء لقوله صلى الله عليه وسلم: «الرجل راعٍ ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها»، أي أن هناك مساواة بينهما في تحمل المسؤولية، وهذا التحمل لا يتأتى إلا بالاستعداد العقلي والبدني، الأمر الذي لا يتوافر في القاصرات الصغيرات السن.
فإذا كان الفقهاء قد منحوا لولي المرأة كالأب أو الجد حق تزويج البكر الصغيرة، وهو ما يسمى بولاية «الإكبار»، إلا أن هذا الرأي يتعارض مع حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي اشترط فيه الحصول على إذن المرأة وموافقتها على هذا الزواج، وهو ما يقيد سلطة ولي الأمر وهو الأب.
وتؤكد صالح أن المأذونين اللذين تورطا في قضية تزويج العشرات بل المئات من القاصرات وغيرهما انطلقا من تفسير خاطىء للحديث الشريف: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج»، وهو حديث صحيح موجه إلى الشباب ذكوراً وإناثاً، لكنهما وقعا في خطيئة تفسير لفظ «الباءة» بمعنى القدرة الجنسية فقط، رغم أنها تعني القدرة البدنية والمالية بشكل عام، بمعنى الاستعداد التام لتحمل مسؤولية الأسرة وهو ما لا يتوافر للأطفال قبل ١٨ عاماً، ثم إن مثل هؤلاء يقومون بتزوير سن الفتاة وهو ما يدخل في باب الغش والتزوير ومن غشنا فليس منا.
لم يعد زواج الفتيات القاصرات ممن تقل أعمارهن عن ١٨ عاماً مجرد حوادث فردية. تنبع من رغبة بعض الأهل في «سترة» البنت بدفعها إلى بيت أول عريس يطلبها، بقدر ما أصبح ظاهرة تؤكدها الإحصاءات، بل تحول هذا الزواج إلى «جريمة» يومية تقودها مافيا منظمة، يديرها محامون متخصصون وسماسرة محترفون ومأذونون مزورون وأهل متواطئون. فما الذي يحدث ولماذا تحولت الحوادث الفردية إلى ظاهرة؟ وما آليات عمل مافيا المتاجرة بالقاصرات؟ وإذا كان الزواج قد تحول إلى تجارة فمن يشتري ومن يبيع؟ وما الآثار المترتبة على هذه الزيجات؟
شكل الاتجار بالقاصرات يتباين من منطقة مصرية الى أخرى، وتختلف آلياته في الريف عنها في المدينة. ففي مراكز محافظة ٦ أكتوبر ـ مثلاًـ يلعب الأثرياء دوراً في انتشار الظاهرة، وأكدت دراسة ميدانية حديثة أعدتها وزارة الدولة للأسرة والسكان أن زيادة المهور التي يدفعها هؤلاء هي السبب الأول لإقبال الأهالي على تزويجهم لبناتهم بنسبة ٦٧٫٣ في المئة، ثم جاء فقر الأسرة وانخفاض دخلها سبباً ثانياً. كما تلعب كثرة عدد الفتيات في الأسرة المصرية دوراً في إتمام هذه الزيجات، إضافة إلى رغبة الكثير من الفتيات في تغيير مصيرهن والهروب من ظروف المعيشة الصعبة لدى أسرهن، والخوف من العنوسة أيضاً. وتقدر الدراسة قيمة المهور التي يدفعها الأثرياء في الزيجة الواحدة بما بين ٥ آلاف و ٥٠ ألف جنيه مصري إضافة إلى الشبكة والهدايا العينية، وهناك عوامل تؤثر في قيمة المهور أولها جمال الفتاة، وثانيها سن الفتاة ، وهناك «شطارة» السمسار أو الوسيط في انتزاع أكبر مهر ممكن لكي يضمن زيادة حصته الشخصية.
أما كيفية تعرف الأسرة على الزوج الثري فتتمثل أولاً في السماسرة الذين يعرفهم الأهالي أو عن طريق أحد الأقارب داخل مصر أو خارجها ممن يقيمون في الدول العربية. وهناك حالات تذهب فيها الفتيات إلى السمسار طلباً لزوج ثري دون علم أسرهن، ولتسهيل عملية جلب الفتيات يضطر السمسار لتوظيف امرأة سواء كانت زوجته أو إحدى نساء القرية.
من العرفي إلى المسيار
تتباين أشكال زواج القاصرات بين زواج شرعي، وهوالشائع، ويليه الزواج العرفي ثم زواج المتعة، وأخيراً زواج المسيار.
وأوضحت الدراسة أن الفتاة ليس لها أي دور في اختيار الزوج، فقد أكد ٫٢ في المئة من الأهالي أنهم لا يأخذون رأي الفتاة، وقال ٢١ في المئة إنهم يأخذون رأيها أحياناً، فيما ادعى ٥٩ في المئة أنهم يستشيرونها، غير أن الآراء أجمعت على أن الفتاة ليس لها رأي وتساق إلى مصيرها المجهول عن طريق الترهيب أو الترغيب بالمستقبل المغري.
هذه الزيجات لا تستمر طويلاً، ففي ٥٩٫٩ في المئة من الحالات يهرب الزوج إلى الخارج ويترك زوجته وهي حامل، مما يترتب عليه وجود مولود قد ينسب إلى أحد الأقارب مثل الجد أو الخال من أجل استخراج الأوراق الرسمية التي تحميه من مصير مجهول النسب. وهناك بعض الأزواج يحتفظ بالمولود الذي يتم تهريبه إلى خارج مصر، وتسجيله في بلد الزوج وحرمان الأم منه. كما يؤدي صغر سن الزوجة وعدم قدرتها على تحمل المسؤولية إلى الطلاق في ٣٥.٤ في المئة من الحالات، وينجم الطلاق أحياناً من عدم الكفاءة الجنسية للزوج لكبر سنه وعجزه.
ارتفاع الضغط وتسمم الحمل
إذا كانت آثار مثل هذه الزيجات مدمرة على المستوى الاجتماعي، فماذا عن الأضرار الصحية للزواج المبكر، الدكتور محمد كساب استشاري أمراض النساء والولادة يرى أن خطورة هذه الزيجات تكمن في ارتباطها بالحمل والولادة المبكرة التي تؤدي إلى زيادة فرص الإصابة بتسممات الحمل، وارتفاع ضغط الدم الذي يلازم المرأة التي تصاب به في سن مبكرة طوال حياتها، كما أن هذا الضغط يؤدي بدوره إلى تسمم الحمل في كل مرة تحمل فيها الأمر الذي تظهر أعراضه على شكل زلال في البول وتورم القدمين. وإذا لم تعالج الحامل بصورة صحيحة فإنها تتعرض لحالة تشنج تسمى «الأكلاسيا»، كما يؤدي ارتفاع ضغط الدم إلى نزف في العين قد يؤدي إلى فقدان البصر، كما أن القاصرات المتزوجات معرضات لعسر الولادة بنسبة أكبر من غيرهم، كما أن هؤلاء يلدن أطفالاً ناقصي النمو والوزن يكونوا عرضة للوفاة أكثر من الأطفال الطبيعيين.
أما الأضرار النفسية للزواج المبكر فيرصدها أستاذ الأمراض النفسية والعصبية قائلاً: «الإحصاءات أثبتت أن نسبة الطلاق في الزواج المبكر أكبر منها في الزواج المتأخر، لأن ذوي السن الصغيرة يختارون زوجاتهم بناء على نزوة أو عاطفة جياشة مذبذبة أو لفرصة صغيرة، وغالباً ما يتم الزواج بتدبير من الأهل، وعندما يختلف الطرفان يتبين فوراً عدم القدرة على التكيف لأنهما لا يتمتعان بالنضج الانفعالي والمرونة اللازمة لاستمرارية الزواج».
ويوضح عكاشة أن الزوجة تكتشف بعد إنجابها طفلاً أو طفلين أنها تعيش مع زوج لا تحبه ولا تستطيع في الوقت ذاته التخلص منه، فتتعرض لكثير من الاضطرابات النفسية والهستيرية كالعمى الهيستيري والهياج الحاد والغيبوبة النفسية وحالات من الصرع والصياح بدون سبب، كما أن زواج القاصرات معناه أمومة ناقصة وغير ناضجة فينشأ الطفل دون الرعاية اللازمة، وكثيراً ما تتولى الجدة أمر تربيته بكل ما يعنيه ذلك من أضرار على تكوينه النفسي.
عادات وتقاليد
للعادات والتقاليد الخاطئة دور في غرس قيمة الزواج المبكر في نفسية الطفلة، كما تلاحظ الدكتورة إقبال السمالوطي عميدة المعهد العالي للخدمة الاجتماعية، فمنذ سن العاشرة تكرر الأم على مسامع الابنة عبارات وأدعية تؤكد أن مصيرها لبيت زوجها قائلة: «الله يسترك ويوعدك بابن الحلال اللي يريح قلبك». كما تصطحب الأم ابنتها في ليلة الحنة عند منزل أي عروس، سواء كانت من الأقارب أو الجيران، وتدعوها لـ«قرص العروسة في ركبتها» عملاً بالمثل القائل: «اقرصيها في ركبتها... تحصيلها في جمعتها»، ومن هنا فإن الوعي بقيمة الزواج المبكر بالغ الأثر في أذهان أبناء الريف رجالاً ونساءً وشباباً وفتيات، منذ نعومة أظافرهم.
زوج وزوجة وسمسار
الظروف الاجتماعية والاقتصادية هي المسؤول الأول في نظر دعاة حقوق الإنسان عن استشراء ظاهرة الزواج المبكر، فرغم أن هاني هلال مدير مركز الطفل المصري يعترف بأن جانباً من المشكلة يرجع إلى شيوع فكرة «تستير البنت» بدفعها إلى أول عريس يتقدم لها لدى الفئات الأقل وعياً وثقافة في المجتمع. إلا أنه يؤكد في المقابل أن محاولات بعض الأسر الفقيرة لتحسين مستواها الاجتماعي والاقتصادي تضطرها لتزويج بناتها أو بالأحرى بيعهن للأثرياء من كبار السن.
ويلفت هلال إلى أن الأبحاث التي أجريت على عدد من هذه الحالات أكدت وقوع الطلاق خلال عام أو عامين على الأكثر، وفي معظم الحالات تعود الطفلة بطفل أو تكون حاملاً، وهي في الحالتين دون حقوق، لأن أحداً لا يهتم بتأمين مستقبل الفتاة في حالة الانفصال خصوصاً أن الزيجة تتم عادة عن طريق وسيط، غالباً ما يكون محامياً أو سمسار زيجات يحصل على نسبة من الصفقة التي تتراوح ما بين زواج موثق في أحيان قليلة وزواج عرفي لا يوثق في السفارات أو حتى مكاتب الشهر العقاري.
شهادات تسنين
إذا كان المحامي والسمسار يلعبان دوراً مهماً في عملية الاتجار بالقاصرات تزويجاً وطلاقاً في المدن، فإن الخاطبة هي المسؤول الأول عن نسبة الزواج والطلاق المرتفعة للقاصرات في الريف، فكل ما يهمها – حسب ما يوضح الدكتور غريب عبد السميع أستاذ علم الاجتماع في جامعة حلوان – هو إتمام الزيجات للحصول على «الأتعاب» التي تتمثل في النقود والهدايا العينية.
ويربط عبد السميع ظاهرة الزواج المبكر بظاهرة إهمال تسجيل المواليد في الوحدات الصحية الريفية، إذ يؤدي عدم وجود شهادات ميلاد خاصة للبنات إلى الاعتماد على طريقة شهادات التسنين التي يحصل عليها الآباء بكل سهولة من الأطباء مقابل رسوم معينة، مشيراً إلى أنه ثبت عملياً أن كثيراً من حالات الطلاق يرجع إلى صغر سن الزوجين، وعدم إدراكهما لطبيعة الحياة الزوجية وتقديرهما لمسؤولياتهما.
الخط الساخن
في مواجهة الصورة القاتمة التي عرضتها الدراسة الميدانية، قررت وزيرة الدولة للأسرة والسكان مشيرة خطاب إطلاق حملة لمناهضة الزواج المبكر، تبدأ بإنشاء خط ساحن لـ«المشورة الأسرية وزواج الأطفال» لتشجيع الناس على الإبلاغ عن أي حالة اتجار بالقاصرات. وهو الخط الذي دخل الخدمة الفعلية في شهر آب/أغسطس الماضي، كما تؤكد الدكتورة عزة العشماوي مديرة وحدة مناهضة الاتجار بالأطفال وخط المشورة الأسرية، ويعمل عليه أطباء مدربون.
وعن الإجراءات التي يتم اتخاذها للتعامل مع الاستغاثات تقول العشماوي: «هناك حالات تحال على النائب العام، كحالة مأذوني الغربية مثلاً. وهناك حالات أخرى تحال على وزارة الداخلية، مثل ما حدث في حالة الطفلة التي أبلغت مخدومتها عن نية والدها تزويجها بالمخالفة للقانون، رغم أن عمرها ١٦ عاماً وتعاني فقر دم حاداً وتقزماً وضعفاً عاماً في البنية فأبلغت الشرطة، ونجحنا بالتعاون مع «جمعية المرأة والتنمية» في الإسكندرية في إنقاذ الفتاة، وحصلنا على تعهد كتابي من والدها بعدم تزويجها».
قل اتجاراً ولا تقل زواجاً
رجال القانون بدورهم لا يرون قضية زواج القاصرات مجرد جريمة عادية تنطوي على خرق لقانون الطفل أو حتى قانون العقوبات، بقدر ما يعتبرونه خرقاً لمواثيق حقوق الإنسان والعهود الدولية باعتباره نوعاً من الاتجار بالبشر. فحسب ما تؤكد الدكتورة سهير عبد المنعم أستاذة القانون الجنائي في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، فإن تعبير الاتجار بالبشر يشمل تزويج القاصرات في الأسر الفقيرة أو المعدمة من أثرياء يكبرونهم بعشرات السنين في عملية تنعدم فيها كل شروط التوافق والانسجام الاجتماعي والإنساني.