علماء الدين يؤكدون: 'الترضية' بديل غير شرعي لميراث المرأة
الطب الشرعي, ملكة يوسف زرار, د. مبروك عطية, موقف الشرع, علماء الدين, د. سامية الساعاتي, إرث, مشكلة / مشاكل وخلافات الميراث, الترضية
20 ديسمبر 2010المطالبة بالميراث
وفي دراسة جامعية أخرى أعدتها الدكتورة سلوى المهدي، أستاذ علم الاجتماع بكلية آداب قنا، عنوانها «ميراث المرأة في الصعيد بين الواقع والمأمول»، كشفت عن أن 90 في المئة من نساء الصعيد محرومات من الميراث، وأن مطالبتهن بميراثهن تؤثر بالسلب في علاقتهن الاجتماعية والأسرية بعائلاتهن قد تصل إلى درجة المقاطعة والامتهان، ويوجَه اتهام للمرأة ببيع أهلها من أجل شراء أسرة زوجها إذا طالبت بميراثها كاملاً ورفضت «الترضية».
وهذا ما جعل 38 في المئة منهن لا يطالبن بميراثهن لمعرفتهن المؤكدة باستحالة حصولهن عليه، وأن 58 في المئة منهن طالبن بالميراث، فكانت النتيجة أن 48 في المئة لم يحصلن على حقهن في الميراث، مقابل 34 في المئة حصلن على جزء من الميراث، و18 في المئة فقط حصلن على ميراثهن كاملاً، مع وجود تفاوت طبقي بين المستويات التعليمية المختلفة في المطالبة بالميراث، فكلما ازدادت درجة تعليم المرأة كانت حريصة أكثر على الحصول على حقها في الميراث ورفض «الترضية».
طمع
ووصفت الدكتورة إلهام شاهين، الأستاذة في جامعة الأزهر، ما يطلق عليه «ترضية» بأنه نوع من وأد المرأة معنوياً، وهذا لا يقل خطورة عما كان يفعله الرجال في الجاهلية، وذمَّه القرآن في قوله تعالى: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» الآيتان 58-59 من سورة النحل. وكل من يسهم في هذا الوأد يرتكب جريمة لا تغتفر، حتى ولو كانت هناك عملية بيع من المرأة لميراثها مقابل تلك الترضية، لأن هذا ظلم وتعدٍ على حدود الله سبحانه، ويخالف وصية النبي، صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم فمن لم يعدل بين أولاده فقد عصى الله ورسوله». فضلاً عن ترسيخه العداوة والبغضاء بين الورثة مما يؤدي إلى تمزق الأرحام.
وأوضحت أن الشريعة حددت الأنصبة في المواريث أدق تحديد، حيث تولى الخالق، سبحانه وتعالى وهو العادل، قسمة المواريث، وأنزل بها آيات تتلى إلى يوم القيامة، والتزم بها المسلمون في كل العصور، فقد نص القرآن على توريثها. قال تعالى: «لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ. وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا» آية 7 سورة النساء. ولكن ضلال العقول وطمع القلوب أسهم في ضياع الحقوق تحت مسمى «الترضية»، مع أن ميراث المرأة حق لا صدقة، وكل من يساعد على استغلال المرأة أو إجبارها على التنازل عن حقها في الميراث فهو مخالف لأوامر الله، ومتَّبع لأهواء النفس والأعراف الفاسدة، التي تنظر للمرأة نظرة دونية، أو أنها مكسورة الجناح، ولا تحتاج المال مادام هناك من ينفق عليها من الرجال، سواء كان أباها أو أخاها أو زوجها أو ابنها أو غيرهم، بحجة رغبة العائلة في الاحتفاظ بالإرث ضمن العائلة الواحدة، وخاصة إذا كان الميراث قطعة أرض، وإذا ما رفضت المرأة التنازل فإن ذكور العائلة ينظرون لها كعدوة، وكأنها ارتكبت عاراً.
بعض رجال العائلات يظلمون نساءهم، من خلال ما يعرف باسم «الترضية» كبديل للميراث، وفيه تدفع العائلة مبلغاً من المال لبناتها مقابل التنازل عن ميراثهن في الأرض أو العقارات أو غيرها من الأصول، وإذا تجرأت المرأة على الرفض، فإن مصيرها العداء والمقاطعة من الأهل. تلك الظاهرة ناقشتها أخيراً دراستان جامعيتان. ترصد «لها» أهم ما جاء فيهما وتسأل علماء الدين عن موقفهم من الترضية، وما يردده البعض بأنها بديل شرعي للميراث؟
ظلم اجتماعي
وصفت الدكتورة سامية الساعاتي، أستاذة علم الاجتماع في جامعة عين شمس، «الترضية» بأنها فتات من الميراث يعطى للمرأة، إذا ما طالبت بميراثها، للحصول على رضاها وتنازلها، من خلال توقيع مستندات رسمية بأنها حصلت على ميراثها كاملاً، مع أن هذا لم يحدث. والغريب أن من يظلم المرأة له منطق مغلوط، وهو حماية الميراث من أن يذهب الى رجال غرباء هم أزواج بنات الأسرة، وهذا منطق ظالم يؤكد السيطرة الذكورية التي تدعمها عادات وتقاليد تبيح الحرمان من الميراث، إما بالإكراه أو الحياء تحت ضغط ما يسمى العيب الاجتماعي، ويبرر إساءة إخوتها إذا طالبت بميراثها.
ظلم للمرأة
أعدت الباحثة ابتسام مرسي رسالة دكتوراة في جامعة الأزهر عنوانها «الذمة المالية للمرأة بين الشريعة والواقع»، تناولت فيها مظاهر الظلم للمرأة، ومنها قضية «الترضية» التي يتم خلالها هضم ميراث المرأة لصالح أشقائها الذكور الذين يجبرونها على أخذ مبالغ زهيدة من المال مقابل تنازلها رسمياً في المحاكم عن حقها في الميراث، خاصة إذا كان أراضي أو عقارات، بحجة المحافظة على مكانة العائلة وقوتها وعدم إعطاء ميراثها لـ«الأغراب»، حتى ولو كانوا أبناءها وزوجها.
وكشفت الباحثة مفاجأة أن الأمهات والجدات يلعبن دوراً رئيسياً في هذه الظاهرة، رغم أنهن كن ضحايا سابقات للظلم، حيث يحرصن على جمع بناتهن، وإقناعهن بأنه من مصلحة المرأة قبول قرار أسرتها، التي ستكون ملاذاً لها إذا تخلى عنها زوجها في يوم من الأيام، أو حتى توفي، وأنها يجب أن تنظر إلى المستقبل، وتتنازل عن ميراثها من خلال «الترضية».
عصر الجاهلية
وشبّه الدكتور مبروك عطية، الأستاذ في جامعة الأزهر، القائمين بـ«الترضية» بأنهم يشبهون الرجال في ما كانوا يقومون به في عصر الجاهلية، حين كانوا يقصرون الميراث على الرجال القادرين على حمل السلاح، ويحرمون النساء منه، وكان تعجب الرجال وهم حديثو عهد بالإسلام من توريث الإسلام للمرأة، فقالوا: «يا رسول الله أنعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم، ونعطي الصبي الميراث وليس يغني شيئاً». وهذا ما حرَّمه الشرع، ومن يفعله يأثم ويؤخذ بحكم الجاهلية، وقد عاب القرآن على هؤلاء فقال تعالى: «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ» آية 50 سورة المائدة.
أمثال هؤلاء قدموا العادات على الشرع، لأنهم سلبوا المرأة حقوقها من الميراث، وألحقوا بها أضراراً بالغة، مع أنها صاحبة حق شرعي في الميراث مثل أخيها، ولا يجوز إجبار النساء على التنازل عن ميراثهن مهما كان السبب، ومن يفعل غير ذلك فهو آثم وآكل لأموال النساء بالباطل، وخاصة إذا كانوا يتامى لقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا» آية 10 سورة النساء.
مخالفة للشرع
هذا أهم ما جاء في الدراستين فماذا يقول علماء الدين؟. في البداية يتعجب الدكتور محمد المختار المهدي، عضو مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، ممن يظلمون المرأة باسم الدين، ويرفضون مطالبة المرأة بميراثها ويقاطعونها ويتهمونها بأنها باعت أهلها من أجل شراء أسرة زوجها، وكأنها ارتكبت جرماً لرضاها اقتسام الغريب أملاك العائلة، وأن زوجها مسؤول عن الإنفاق عليها ولا حاجة لميراثها.
وهذا الفعل محرم شرعاً، والدين بريء منه تماماً، وقد توعَّد الله من يفعل ذلك بعذاب أليم فقال عقب آيات الميراث في سورة النساء: «تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ » الآيتان 13-14 سورة النساء.
تدين زائف
وكشفت الدكتورة ملكة يوسف زرار، أستاذة الشريعة في جامعة القاهرة، جانباً خطيراً من القضية قائلة: «الغريب أن هذا قد يتم من رجال يدَّعون أنهم متدينون، ويقرأون الآيات القرآنية التي حددت المواريث، وخالفوا بذلك قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله وسووا بين أولادكم في العطية». ولهذا لا بد من تكثيف حملات التوعية لهذا السلوك المرفوض شرعاً، لافتقادها للعدل والحق. ومن يفعل ذلك فهو آثم ومعطل لحكم الله، ومتعدٍ على كتاب الله وسنة رسوله، وآكل لأموال اليتامى بالباطل، وقاطع للأرحام، وكل إنسان مسؤول عن أفعاله أمام الله القائل: «آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً» آية 11 سورة النساء.
وكل الأفعال المترتبة على «الترضية» حرام شرعاً، ويجب على ولي الأمر إنزال العقوبة بهم لأنهم ينشرون الظلم والفساد في الأرض، لأن ما بني على باطل فهو باطل، ومن ثم لا يسقط حق المرأة ولا أولادها من بعدها في المطالبة بحقها في الميراث. وفي نفس الوقت سيظل الذنب معلقاً في ذمة كل من ساهم في هذا الظلم ولو بكلمة. ومن حق المرأة وأولادها اللجوء للقضاء لرفع الظلم عنهم واستعادة ميراثهم المسلوب».
قطعة من نار
وقال الدكتور سعد الدين الهلالي، الأستاذ في كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر: «إذا كان الذكور قد أخذوا حق أخواتهم بـ«الترضية»، فقد أخذوا ناراً في الدنيا والآخرة لقوله، صلى الله عليه وسلم: «إذا قضيت لأحدكم بشيء من حق أخيه فإنما هي قطعة من نار فإن شاء فليأخذها وإن شاء فليدعها». وأحذر من يقوم بذلك أنه لن يُقبل منه عمل صالح، لأنه أشبه بالسارق والمختلس أموالاً وبنى جسمه على الحرام، فقد قال، صلى الله عليه وسلم: «ربَّ أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول يا رب يا رب وقد غذي بالحرام وملبسه حرام ومشربه حرام فأنى يستجاب له».
وذلك لأن الأكل من الحلال شرط استجابة الله لنا فقال، صلى الله عليه وسلم: «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة». ولن تقبل له توبة حتى يرد المظالم لأصحابها. ولابد أن يشعر الآباء والأمهات بأنهم يأثمون بعدم تعريف أبنائهم بالحلال والحرام. وليس مبرراً القول بأن الناس يجهلون حق المرأة في الإرث».
البعد النفسي
وعن البعد النفسي للقضية، تؤكد الدكتورة سامية الجندي، أستاذة علم النفس والعميدة السابقة لكلية الدراسات الإنسانية، أن مطالبة المرأة في بعض البيئات بميراثها ترتبط بالعيب، وهي موروثات ثقافية خاطئة، مما أدى الى ارتفاع نسبة معدلات النساء الفقيرات بالنسبة الى الرجال، بالإضافة إلى الخوف النفسي من قطع علاقتهن مع أهلهن بعد رفضهم إعطاءهن ميراثهن، ولهذا يفضلن الصمت وتفويض الأمر لله بعد أن أدركن أنه «ما باليد حيلة»، وفشل كل محاولات الأصدقاء والمقربين ممن يحاولون القيام بالوساطة، وافتقدت الكثيرات جرأة رفع الدعاوى القضائية لنيل حقوقهن، وإذا تجرأن فالنتيجة العداء مع الأهل. وعادة لا يلجأن إلى المطالبة بميراثهن لتأثرهن بالموروث الثقافي والقهر النفسي، لأن أهل المرأة يمثلون الظهر والسند لها في حالة وجود أي مشكلات مع زوجها أو أهله، مما جعلها مطمعاً لأهلها، الذين يصرون على عدم تفتيت ميراث العائلة، من خلال احتفاظ الرجال بالممتلكات أو القوة الاقتصادية للعائلة.