'سند' لمرضى السرطان

رعاية صحية, مستشفى, مرض السرطان, فرص الشفاء, الشفاء من المرض, جمعية سند

23 مايو 2011

تضيع النظرة وتبحث المقلتان عن الهروب إلى مكان آخر تنظران إليه غير وجه الطبيب، مكان يمكّنهما من البكاء، بصمت أو صخب، بعيداً من أي شيء وكل شيء. يتوقف الزمن لثوانٍ يمرّ خلالها شريط العمر كاملاً بتفاصيل لم يدرك صاحبها أنها كانت موجودة يوماً. هو موقف من أصعب المواقف إذا لم يكن الأصعب، الموقف الذي يشعر المرء معه بأنه عاجز أمام ما سيلي هذه اللحظة. يأمل لو أن ثواني الصمت تدوم كي لا يصبح الخبر يقيناً، وبالتالي كي لا يضطر للتعامل مع الحقيقة الموجعة. نعم لقد قال الطبيب لتوّه: «لا أمل بعد الآن. حبيبكم في أيامه أو على أبعد حد في أشهره الأخيرة. عودوا به إلى المنزل فلا جدوى من بقائه في المستشفى!».


وقع الخبر أكبر من أن يُحتمل، وأصعب من التعامل معه، كيف لي أن «أقتنع بقطع العلاج عن والدي وأعيده إلى المنزل؟ من الضروري أن يكون أمله في الشفاء أكبر مع وجود طاقم طبي متخصص»... رد فعل طبيعي يترافق مع أي حالة مشابهة بصرف النظر عما إذا كان المريض هو والد أو والدة أو ابن أو ابنة أو أخ أو أخت أو قريب أو قريبة. ينشطر القلب أمام أيام معدودة لوداع الحبيب في المنزل وبين بقائه في المستشفى معلّقاً بين أيدي أطباء وممرضين وممرضات لديهم عشرات الحالات للتعامل معها يومياً. واقع يقف في مواجهته العشرات من أهالي مرضى يعانون أمراضاً مختلفة، أبرزها مرض السرطان. تضيق الدنيا في عيني الابنة، وتدمع أمام واقع جهل والدتها بحقيقة مرضها، كيف لها أن تعود بها إلى المنزل، كيف لها أن تتعامل مع الآلام المفاجئة التي تصيبها من دون أن تخبرها بمدى سوء حالها؟ كيف لها أن تقنعها بأن تطلب ما تريد وتفعل ما تريد وتقول ما تريد من دون أن تزرع الشكوك في نفسها بأن الطبيب قدّر أن مرضها قد يقضي عليها خلال أشهر على أبعد تقدير.

وضع الفتاة الوحيدة لا يختلف عن وضع ثلاثة شبّان وقفوا الموقف نفسه أمام خبر وصول مرض والدتهم إلى درجة «المستعصي»، ليدخلوا الدوامة نفسها التي دخلها ويدخلها الكثيرون. وإن كان الشبان الثلاثة من آل حايك، وجدوا العون في جمعية «سند»، في التعامل مع وضع والدتهم. يقول مازن حايك، الناطق الرسمي باسم مجموعة MBC في دبي: «وقع الخبر بعجز الطب أمام المرحلة التي وصلت إليها والدتي، لا يمكن وصفه. أعاننا الطبيب عندما أشار إلينا بوجود جمعية كـ«سند» تُعنى بالرعاية التلطيفية». حايك، الذي يغلبه الألم على فراق والدته، فيقطع حديثه أكثر من مرة في محاولة لابتلاع دمعة تتحوّل غصة خانقة في صوته، يعتبر أن «سند» قدمت لوالدته عناية طبية ممتازة ودعماً معنوياً كبيراً في الأشهر الأخيرة التي عاشتها.


«سند» جمعية لبنانية غير ربحية


و«سند» جمعية لبنانية غير ربحية، تُعنى بما يُعرف بالرعاية التلطيفية، يقوم خلالها فريق عمل سند بتقديم الرعاية الطبية والمعنوية اللازمة التي تؤمن للمريض أياماً كريمة في نهاية حياته. وتقول رئيسة الجمعية والمستشارة في مجال التنمية الاجتماعية، لبنى عز الدين: «أتتني الفكرة بعد أن قامت جمعية أردنية مماثلة اسمها جمعية الملاذ بمساعدة والدتي في آخر أيام حياتها، وعندما رأيت أن والدتي فارقت الحياة بأقل ألم ممكن، وبراحة نفسية كبيرة، أحببت أن أنقل التجربة إلى مَن هم في حاجة إليها في ظروف غالباً ما تكون عصية على التقبّل».

وتقوم الرعاية التلطيفية على مبدأ أن لكل مريض الحق في المعاملة الجيدة والعيش بأقل ألم ممكن وإن كان يصارع في الساعات الأخيرة من حياته. ومن هنا يتألف فريق عمل «سند» التنفيذي إلى جانب عز الدين، من الدكتورة سلام جلول (طبيبة متخصصة بطب الشيخوخة)، وماري كلير مهاوج (ممرضة متخصصة بالعناية التلطيفية)، وهيلين سماحة نويهض (ممرضة اختصائية في شؤون التمريض الإدارية والأكاديمية).

بعد التواصل الأول بين أهل المريض و«سند» والذي يتم إمّا عبر طبيب المريض أو مباشرة مع الجمعية، تقوم الدكتورة جلول بزيارة طبيب المريض المعالج، والاطلاع عبره على ملف المريض كاملاً من أجل التنسيق الدائم معه. «نحن لا نأخذ دور الطبيب المختص بأي شكل من الأشكال، وإنما نلعب دور المؤازر له بعد وصول الحالة إلى مرحلة اللاعودة»، تقول جلول. وتوضح: «نعمل بالتنسيق التام مع الطبيب من أجل تدوير الوجع وتقليصه، ونتعامل مع المريض كإنسان متكامل من النواحي النفسية والمرضية والعائلية».
تتعرف «سند» على المريض وهو في مرحلة Terminal أي بعد أن يصبح العلاج غير مجدٍ، وتعمل على أن يكون بين عائلته وأهله وعلى أن يختم حياته بكرامة. «نحن لا نتدخل في مشيئة الله بتاتاً، بل إن عملنا جزء مما يقوم عليه مبدأ  الإنسانية ومن رسالتنا كأطباء وممرضات وهو الشق الذي نسيه أو تناساه البعض ممن يمتهنون هذه المهنة».

 

وتقول ماري كلير، الممرضة التي اختارت بعد عمل استمر أكثر من 20 عاماً في القطاع التمريضي والإستشفائي، أن تتوجه إلى ما لم تستطِع تطبيقه خلال عملها تحت إدارة المستشفيات. ماري كلير أو الجندي الأول في المجموعة، كما يحب الفريق التنفيذي لـ «سند» إبرازها تلخص طبيعة عملها بالقول: «نحن نقوم بالتوجيه في المنزل، لا نملي على العائلة أي تصرّف وإنما نعمل على رفدهم بما يريحهم. فعائلة المريض الذي يوشك على مفارقة الحياة، غالباً ما تقف عاجزة عن التعامل مع الموقف. نحاول تدريبهم على مساعدتنا من خلال تعليم من يرغب منهم طريقة إعطاء جرعة الدواء اللازمة، ومساندتهم مع أي حدث مفاجئ إذ غالباً ما يمرّ المريض في انتكاسات متعددة تؤدي إلى أن تسوء حالته يومياً بعد آخر».


عائلة تندمج مع عائلة المريض


يعمل الفريق التنفيذي بتنسيق تام، وكعائلة واحدة تندمج مع عائلة المريض، فتصبح جزءاً منها، إلاّ أن ذلك لا يؤثر على قدرته على الحكم أو التعامل مع المواقف الصعبة. وتوضح هيلين هذه المرحلة قائلة: «نعمل على سماع صوت المريض ونبضه ونبض عائلته ونعمل على تحقيق راحتهم النفسية. قد يرغب أحدهم في البوح بسر معين أو التعامل مع موقف معين فنحاول مؤازرتهم إلى أبعد حد ممكن».
بالإضافة إلى التعامل مع طبيب المريض وعائلته، تقيم «سند» شبكة علاقات واسعة، تعمد خلالها إلى نقل خبرتها من أرض الواقع إلى مراكز القرار «كالجامعات والمعاهد التي تخرّج الممرضين والممرضات بالتعاون مع نقابتهم. ونعمل في القسم المخصص للسرطان في وزارة الصحة وفي إطار ما يُسمى لجنة الرعايا التلطيفية على وضع استراتيجية وطنية عامة في هذا المضمار، تساعد في تثبيت الرعاية التلطيفية كثقافة»، على حد قول هيلين.

لا تتقاضى «سند» أي بدل لقاء ما تقدمه من خدمات، أبرزها المتابعة الطبية على مدى 24 ساعة، وتعمل على توفير الأدوية والاحتياجات اللازمة للعائلة التي تفتقر إلى القدرة على ذلك، أمّا مَن لديه القدرة فيوفر الاحتياجات اللوجسيتية بنفسه وينصرف فريق «سند» إلى تأمين الدعم النفسي والرعائي والمعنوي للمريض وعائلته.


سرية التامة في التعامل


تعاملت الجمعية مع عشر حالات منذ بدايتها، ويحرص الفريق التنفيذي على السرية التامة في التعامل مع الحالات وعائلاتهم. ولا تختص «سند» بتقديم الرعاية التلطيفية لمرضى السرطان في مراحله المتأخرة، بصرف النظر عن سنّهم طالما أنهم بالغون، ولا تقدّم أياً من خدماتها للأطفال في الحالات نفسها حتى الآن، ويعود ذلك إلى «خصوصية التعامل مع الطفل وهو ليس من اختصاص سند الحالي إلاّ أنه سيكون جزءاً لا يتجزأ من عملها في وقت قريب مع تحضير الفريق المتخصص اللازم».
أمّا عن مصدر التمويل للجمعية فتقول عز الدين: «نحن فريق متطوع، في ما عدا الممرضة إذ نحن في حاجة إلى ممرضة تتفرّغ معنا، فعملنا يرتكز بالدرجة الأولى على ذلك»، وعن السؤال تجيب مبتسمة: «ما نقدمه تقدره العائلات كثيرا، وغالباً ما يقوم هؤلاء بالتبرع لنا أو بتأمين تمويل لنا كي نستمر، بالإضافة إلى الكثير من الأفراد المؤمنين بعمل سند».

يطول الكلام عندما تكون القضية بحساسية ما تتعامل معه «سند»، فكثير من الأطباء يجدون في الجمعية عوناً على تولّي أمور هؤلاء المرضى حين يعجز الطب عن معالجتهم. ويعمل الفريق التنفيذي لـ«سند» تحت إشراف الاختصاصي النفسي د. ربيع شماعي الذي يدربهم على التعامل مع الحالات المختلفة للمرضى وذويهم، وبالتعاون مع جمعية «أديان» التي تعمل على رفدهم بالخصوصية اللازمة لكل ديانة ومذهب بما يمكنهم التعامل مع الناس على اختلاف انتماءاتهم.

فريق «سند» مدرب على التعامل مع أسئلة المريض وعائلته حسب كل حالة ووضع، المهم أولا وأخيرا لهم أن يكون المريض وعائلته مطمئنين إلى أنهم يتلقون التوجيه والعون والسند المطلوبة خلال كل المراحل. وعن العلاقة التي تربط  العائلة بسند، يوضح مازن حايك: «رفضت أمي أن ترى أي شخص بعدما تدهورت حالتها وكان مسموحاً فقط لنا ولفريق سند بالوجود حولها. ارتبطت بهن بعلاقة عائلية. قدموا لنا العون في ما نفتقده في لبنان وهو الدعم المعنوي في بلد تتعامل فيه المستشفيات مع مرضاها وكأنهم سيارات معطّلة تدخل إلى الكاراج». ويلخّص الوضع: «في طريق يشوبه غيابه الأمل، أرسلت لنا العناية الإلهية فريق سند البعيد كل البعد عن الدعاية أو الاستغلال، يؤازرنا في أيامنا العصيبة، ويخفّف وطأة الألم عن والدتي».