التصالح مع المفسدين جائز إذا ردُّوا الأموال
د. علي جمعة, سلمى المصري, الشيخ يوسف البدري, د. عبد المعطي بيومي, د. سعاد صالح, دليل شرعي, جريمة سرقة, مال مسروق
22 أغسطس 2011التصالح جائز قانوناً
وعن مدى توافق أحكام الشرع مع القوانين الوضعية في قضية التصالح مع المفسدين، أكد أستاذ القانون الدولي الدكتور جعفر عبد السلام أنه يجب التفرقة بين من اتُهموا بجرائم جنائية ومن يتم اتهامهم بجرائم الكسب غير المشروع والتربح، فمن ثبتت عليهم جرائم جنائية، مثل قتل المتظاهرين، لا تسقط عنهم العقوبة الجنائية مطلقاً، حتى وإن تنازلوا عن الأموال التي سلبوها ونهبوها. أما بالنسبة إلى قضايا التربح والكسب غير المشروع، فنصوص القانون واضحة في ذلك، فكل مسؤول تورط في مثل هذه الجرائم وأضرَّ بالمال العام، وثبتت عليه الأدلة القوية والدامغة، يعود الفصل فيها إلى المشرع الجنائي الذي إذا رأى أن الضرر الذي وقع على المال العام يزول برد هذه الأموال، يمكنه أن يخفف العقوبة.
وينبغي أن يتولى الحكم في تلك القضايا أفراد محايدون، غايتهم العدالة والحكم بما في صالح الدولة، وبالتالي فإن العفو بالتصالح ورد الأموال جائز قانوناً، وفقاً للمواثيق الدولية التي أقرتها المحكمة الدولية، التي أباحت الإعفاء من العقوبة لمن قام بتهريب أموال للخارج ثم قام بردها، فيعفى من العقوبة إذا رأت السلطة القضائية ذلك».
واشار الدكتور جعفر إلى «وجود نصوص قانونية تؤيد فكرة تصالح المسؤولين مع جهاز الكسب غير المشروع، شرط سداد الأموال المستحقة عليهم لخزينة الدولة، لا سيما أن الاقتصاد المصري يعاني حالياً بصورة كبيرة، خاصة مع تراجع عائدات السياحة وتوقف عجلة الإنتاج. كما أن الدولة لن تستفيد من حبس هؤلاء الأشخاص، ولكن من المجدي جداً لها ولشعبها التصالح معهم في سبيل استعادة هذه الأموال كاملة».
أثارت فتوى لمفتي مصر الدكتور علي جمعة جدلا فقهيا بعدما أجاز التصالح مع رجال الأعمال الفاسدين الذين نهبوا ثروات الشعب، مقابل رد ما سرقوه، فانقسم العلماء إلى فريقين، بعضهم يؤيد ذلك فيما يعترض آخرون، ولكل منهما أدلته الشرعية. فماذا قالوا؟
في البداية يوضح الدكتور علي جمعة بعض النقاط المهمة التي استند إليها في فتواه، فيقول: «كلمة «سرق» في الفقه الإسلامي تختلف عن كلمة «سرق» التي يتداولها الناس الآن، فمثلاً عندما يأتي أحدهم وقد استولى على أرض بطرق بعضها قانوني وبعضها غير قانوني، ولكن في النهاية فيها إهدار للمال العام، فهذا لا يسمى في الفقه الإسلامي «سرقة»، إنما يسمى بأسماء أخرى منها الاختلاس ومنها الاغتصاب وكلها حرام. ولكن بالرغم من أنها حرام إلا أنها ليست هي السرقة التي وضع الله لها حدًّا حين قال: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» آية 38 سورة المائدة».
وأضاف: «قيام مجموعة من الفاسدين بسرقة أموال الشعب ليس من السرقة الفقهية، لكن التعبير الصحيح هو أن نقول: إن أناساً ما قد استولوا أو قد اختلسوا أو قد اغتصبوا أو قد نهبوا، ونحو ذلك من الألفاظ، لكن لا تأخذ في حكم الفقه الإسلامي موقف السرقة التي يقام بسببها الحد بقطع اليد».
وعن الحل الشرعي في التعامل مع السارق قال: «في الفقه الإسلامي السارق إذا ضُبط بسرقته لا بد له أن يعيدها لمالكها ما دامت باقية ولم يستهلكها، ولا بد لنا أن نقيم عليه حدّ الله. ولكن من يتحايل، أو يضع نفسه في وضع قانوني فيه ثغرات استطاع من خلالها أن يحصل على ما ليس له فيه حق، فإنه يجوز أن نتفاوض معه حتى نردّ إلى خزينة الدولة ما نَهَبه أو أخذه أو استولى عليه أو تحايل حتى وصل إلى أموال الشعب أو إلى المال العام، هذا هو الحكم وفقاً لأحكام الشرع الشريف».
واستشهد مفتي مصر بتوافق ما ذهب إليه الشرع مع ما قامت به بعض الدول من التفاوض والتصالح مع المفسدين الذين تحايلوا على القوانين أو استغلوا ثغرات نظام حكم فاسد، وأضاف: «الثورة التي قام بها شعب جنوب إفريقيا بزعامة نيلسون مانديلا فَعَلت هذا لأنها فضلت المصالحة مع المصارحة، وبيان كيف استطاع الفاسدون التحايل والتجاوز وسرقة أموال الشعب. ودورنا الاستفادة من هذه المصارحة في بناء المستقبل، وأن نُصدر قوانين ونضع برامج ثقافية في الإعلام وفي التعليم بحيث ننشئ ثقافة سائدة ترفض الظلم والرشوة والاستبداد واستغلال النفوذ وإهدار المال العام. وقد نجحت جنوب إفريقيا وأيضاً تشيلي في هذا المجال، ولذلك علينا أن نراعي الفقه الإسلامي ونستفيد من التراث والذخائر التي فيه، ونراعي أيضاً تجارب الغير ونستفيد منها، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها».
العقوبة هي الأصل
ورفض عضو مجمع البحوث الإسلامية الدكتور محمد المختار المهدي «فتح باب التصالح مع المفسدين بإطلاق، لأن هذا تضييع لفلسفة العقوبة ولحقوق الناس، خاصة أن العقوبة هي الأصل طالما لم يتب الفاسد أو يرجع من نفسه. وقد قسَّم ابن القيم الحقوق إلى نوعين، أولهما حق اللّه، وثانيهما حق الآدمي. وحقوق اللّه لا مدخل للصلح فيها، كالحدود والزكاة والكفارات، أما حقوق الآدميين فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة، إذا رضي الشعب كله أو صاحب الحق. وأعتقد أن الشعب يرفض أن يستمتع المفسدون بما سرقوه سنوات طويلة، ثم إذا تم إلقاء القبض عليهم قالوا نتنازل عما سرقناه، وكأنَّ شيئا لم يكن».
وأضاف: «القضية ليست مجرد أموال ترد فيتم التصالح حولها، وإنما القضية أكبر من ذلك بكثير، لأن المفسد لم يسرق أموالاً فقط، وإنما دمر حياة سياسية، وأرسى قواعد للفاسدين، وأعطى الفرصة للمفسدين لارتكاب جرائمهم، ولهذا فإن التصالح مع هؤلاء غير جائز شرعاً».
المصارحة والمصالحة
وأشارت مفتية النساء الدكتورة سعاد صالح، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية، إلى «أهمية المصارحة قبل المصالحة، لأن الإسلام دين يفتح باب الأمل والرجاء والتوبة لكل العصاة والمفسدين، مهما بلغت درجة فسادهم إذا رغبوا في إعادة صياغة حياتهم من جديد بعد أن يعترفوا بأخطائهم، ويصبحوا ممن قال الله فيهم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً» آية 8 سورة التحريم. وقوله تعالى: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» آية 31 سورة النور. من هذا المنطلق إذا رغب المفسد في التصالح الجاد والتوبة الصادقة من المال الحرام بالتنازل عنه، فلا مانع من ذلك شرعاً طالما رد كل ما سرقه من أموال الشعب».
فتوى مرفوضة
ويعترض عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الشيخ يوسف البدري على ما أفتى به مفتي مصر، مؤكداً أن «التصالح المقبول شرعاً هو ما يتم قبل القبض على المفسد، وليس بعد القبض عليه فيحاول الهروب من العقوبة بالتنازل عن ثروته، فهذا غير جائز شرعاً بدليل قوله تعالى: «إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم» الآية 34 سورة المائدة. فلو تاب اللصوص قبل أن تقبض الدولة عليهم لجاز رد المال والعفو عنهم، مع العلم أن فسادهم لم يكن بسرقة المال فقط، وإنما فاق ذلك بكثير، مثل من أدخلوا المبيدات المسرطنة التي إدت إلى موت الكثيرين من مختلف الأعمار، وبالتالي فلا عفو ولا كرامة لهم، بل مصادرة ما سرقوه ونهبوه وسجنهم، حتى لو وصل الأمر إلى إعدامهم، لأن الحكم الشرعي في رقابهم بالدماء التي سفكوها، والأموال التي سرقوها، والأرض التي خربوها».
تخفيف
ويرفض العميد الأسبق لكلية الدعوة الدكتور طلعت عفيفي فكرة التصالح مع المفسدين، مؤكداً أن «الأموال التي سرقها هؤلاء ليست ملكاً لفرد واحد، ولكنها ملك للشعب كله، ولا يملك أي فرد التنازل عنها دون الرجوع إلى الشعب الذي يرفض الصفح عن هؤلاء السارقين الذين لم يترددوا في نهب المال العام، غير مبالين بأفراد الشعب بفسادهم، وتربحوا من الحرام ولم يتوبوا، وإنما يريدون التهرب من العقاب برد الأموال الظاهرة أو الملموسة بعدما دمروا الشعب بفسادهم. وهذه الجرائم لا تُقدَّر بمال، لأنها أشبه بالقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، ولهذا يجب أن يكون هؤلاء عبرة لكل من تُسوِّل له نفسه أن يقترب من حياة الشعب، وليس أمواله فقط، فالعقوبة في الأساس غايتها الردع، والشرع لا يعفي المتهم من المسؤولية في حالة تنازله عن الأموال التي سرقها، وإنما يمكن النظر في تخفيف العقوبة فقط إذا أعيدت الأموال المنهوبة».
التوبة ورد الأموال
من جهته، أيد عضو مجمع البحوث الإسلامية الدكتور عبد المعطي بيومي ما ذهب إليه مفتي مصر قائلاً: «لا شك أن نهب الثروات وأكل أموال الناس بالباطل ذنب عظيم يوجب على صاحبه التوبة إلى الله توبةً نصوحاً، والاستغفار والندم على ما سلف من الذنوب، والإقلاع عنها خوفاً من الله سبحانه وتعظيماً له، والعزم الصادق على عدم العودة إليها، قال تعالى: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» آية 110 سورة النساء. وقال تعالى أيضاً: «فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» آية 39 سورة المائدة. وأرى أن تنازل المفسد عن كل أشكال فساده هو صورة من صور التوبة التي يجوز التصالح بسببها، لأنها نوع من إبداء حسن النية والإقلاع عن الفساد».
باب التوبة مفتوح
وقال رئيس قسم الشريعة جامعة عين شمس الدكتور محمد فؤاد شاكر: «المبدأ الإسلامي الذي يمكن تطبيقه في قضية التصالح مع من نهبوا أموال الشعب، وظهر لنا صدق ندمهم، وليس مجرد فض للمواقف للهروب من العقوبة، أن باب التوبة مفتوح أمام العبد ما لم يغرغر أو تطلع الشمس من مغربها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر».
والتوبة هنا أو قبول التصالح مرهون بردِّ المظالم والحقوق إلى أهلها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه». وقد أوضح لنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن العقوبة يمكن أن تسقط إذا أزيلت أسبابها، فقال: «على اليد ما أخذت حتى تؤدِّيه».
وبالتالي إذا أدى الفاسد أو الظالم ما عليه، وتاب وندم وظهرت علامات ذلك بإعادة الحقوق ورد المظالم إلى أهلها، فإنه يجوز التصالح معه، وينطبق عليه قول الله تعالى: «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ» آية 14 سورة هود».