في قبضة السجن الكبير!

معاناة, القدس عاصمة الثقافة العربية, القضية الفلسطينية, نساء فلسطين, الزيف الإسرائيلي, المجتمع الفلسطيني, الإحتلال الأميركي

26 سبتمبر 2011

كانت الشمس في كبد السماء عندما وصلنا إلى الجدار الذي يمتد ويلاصق منازل المواطنين، وكأنه أفعى تلتف حول الشوارع والبنايات السكانية المرتفعة. وبدأنا بالسير الى جانبه لكي نجري عددا من اللقاءات مع نساء جعل جدار الفصل والضم العنصري حياتهن سجنا كبيرا. الكثير من النساء استقبلننا عند أبواب منازلهن ولكنهن رفضن إجراء أي حوار صحافي معهن لأنهن يخفن من إجراءات الاحتلال الإسرائيلي التعسفية التي ستقع عليهن وعلى أسرهن.
ويرجع ذلك إلى أن هؤلاء النسوة فلسطينيات من القدس ويحملن بطاقات هوية زرقاء أي إسرائيلية، وإذا علم الاحتلال الإسرائيلي أنهن يسكن قرب الجدار من ناحية الضفة الغربية، سيسحب بطاقات هوياتهن ويمنعهن من الوصول إلى أهلهن عبر الحواجز الإسرائيلية المقامة على الطريق المؤدية الى القدس
.


غير أننا وُفّقنا ببعض النساء اللواتي روين لنا معاناتهن مع جدار الفصل والضم العنصري، وكانت البداية مع ميساء وهي من بيت حنينا، وتبلغ من العمر 21 عاما، وهي متزوجة ولديها طفلة عمرها عامان، وزوجها يعمل في القدس. قالت: «عندما تزوجت سكنت في منطقة الرام وكان الجدار موجودا. ودائما تواجهني الكثير من المعيقات عندما ادخل أو اخرج من القدس، فإجراءات التفتيش على الحاجز الاحتلالي شديدة ومهينة جدا. وبالنسبة الى أهلي فانا أتواصل معهم هاتفيا، وأستطيع الذهاب إليهم مرة واحده كل أسبوعين لأن أمي الكبيرة في السن لا تستطيع زيارتي  بسبب صعاب الحاجز الاحتلالي الإسرائيلي».

وأضافت: «من ناحية أخرى فان الجدار قد ولّد لدى أهل القدس وأهل الضفة الغربية عداوة تؤدي أحيانا إلى وقوع مشادات كلامية. وقد اخترت أن أسكن هنا بسبب الأوضاع المالية الصعبة في القدس، وعندما أرى الجدار اكتئب نفسيا، وأتذكر في صغري أني كنت ازور هذه المنطقة ولم يكن هناك جدار، وكانت البيوت متجاورة. وإذا حصل أن مرضت طفلتي فإنني اضطر للذهاب الى الحاجز الإسرائيلي ومن ثم إلى الباص ومن ثم إلى مكان العلاج. وعندما يعود زوجي من عمله فانه يتعرض للكثير من المشقات. وهناك الكثير من الجيران الذين رحلوا من هنا بسبب الجدار، فهنا لا يوجد عمل ولا حرية. في السابق كان الطلاب يذهبون للدراسة في مدارس داخل القدس ولكنهم الآن ممنوعون بسبب الجدار. أتمنى إزالة الجدار، وأن تكبر ابنتي دون وجود الجدار الاحتلالي. واعتقد أن الجدار قد ظلم الجميع وخاصة المرأة والطفل لأن الرجل يتمكن أحيانا من تدبير أموره».


اختناق

أما ناهدة (21 عاما)، فمتزوجة منذ أربع سنوات ولديها ابنة عمرها سنة وشهران. وقد سكنت في هذه المنطقة منذ عامين، وكان الجدار موجودا حينها. قالت: «اشعر بالاختناق كلما فتحت شباك غرفتي لأني أرى الجدار مباشرة. كل الناس لديهم حرية ولكننا محبوسون لا نستطيع التحرك. ودائما أسال نفسي لماذا يحصل هذا معنا، وأحيانا أتخيل كيف يعيش الناس خلف الجدار وأفكر كيف كانوا جيرانا قبله، فالمسافة بينهم لا تتعدى الدقيقتين ولكن ألآن هم بحاجة إلى ساعة تقريبا حتى يصلوا إلى بعضهم. وإذا مرض احد منا نذهب إلى طريق التفافية لكي نصل إلى منطقة العلاج، كما أن أهلي لا يأتون الى منزلي إلا نادراً، ولا أستطيع الوصول إليهم لأنهم يسكنون في منطقة بعيدة داخل القدس. أما زوجي فيعمل في القدس وعندما يعود وبسبب إجراءات الاحتلال الإسرائيلي تحدث بيني وبينه مشاكل أحيانا... وأمنيتي الوحيدة هي زوال هذا الجدار».

أما يسرى (20 عاما) فكانت تعيش في الأردن وعندما تزوجت انتقلت للعيش في منطقة بجانب الجدار في رام الله. قالت: اختار زوجي هذا البيت القريب جدا من الجدار بسبب عمله، وعندما رأيت الجدار شعرت بان هناك شيئا مفصولا. ومن الصعب أن ندخل المنطقة التي خلف الجدار. عندما كنت أعيش في الأردن كنت اسمع عن الجدار ولكن السمع غير المشاهدة، وكنت أتخيل انه قصير وان الناس تتمكن من رؤية بعضها في المنطقتين. ولو أن الجدار غير موجود لكان لدي علاقات اجتماعية مع نساء من خلف الجدار. وأتمنى أن يهدم هذا الجدار لكي اشعر بحريتي وبأني غير مفصولة عن الآخرين، وأحيانا استمع إلى أصوات السيارات خلف الجدار وأتمنى أن اعرف ما يحصل خلفه».

سناء تبلغ من العمر 39 عاما، وهي متزوجة ولديها أربع بنات. وزوجها يعمل في القدس لان لديه تصريح عمل من الاحتلال الإسرائيلي. روت: «سكنت في هذه المنطقة قبل 17 عاما، ولم يكن الجدار موجودا بالطبع. وكان هناك حديث في السابق بان الاحتلال الإسرائيلي سيقيم جدارا، ولكننا كنا نقول انه من غير المعقول أن يخنقوا الناس ويعزلوا القدس عن الضفة الغربية. ولكننا ألان أصبحنا في عالم آخر... كان لدينا جيران وصديقات فصل الجدار بيننا وبينهم وأصبح هناك طريق التفافية ومعبر. ابنتي تقول لي إنها لم تعد تعرف احدا من عائلتنا في القدس لأنهم أصبحوا في القدس ونحن في الضفة الغربية بفعل الجدار، كما أن اغلب المحيطين بنا تركوا بيوتهم ورحلوا إلى أماكن أخرى، ونحن نسكن هنا بالإيجار، وأتذكر كيف كنا قبل إقامة الجدار وكيف أننا كنا نصل إلى القدس في عشر دقائق... أتمنى أن تعود الأحوال إلى ما كانت عليه في السابق».


دراسة

في ملخص لدراسة تحليلية انثروبولوجية معمقة قام بها فريق بحثي في معهد دراسات المرأة بجامعة بيرزيت في رام الله، يتبيّن أن تفكيك الأسرة جغرافيا كان عاملا أساسيا لتقليص العلاقات الاجتماعية. وبسبب سياسة الإغلاق، وزيادة مصاريف المواصلات، لم تستطع العائلات التواصل مما أضعف علاقاتها الاجتماعية وهذا زاد بدوره الضغط النفسي والمعنوي على أفراد الأسرة الواحد. أما أكبر قطاع من المتضررين فهو النساء خصوصا اللواتي يسكن داخل الخط الأخضر والمتزوجات من أشخاص يقطنون قرى حدودية على جانبيه، وذلك بسبب انقطاعهن عن أهلهن لأن خروجهن للزيارة إلى منطقة الضفة الغربية المحتلة لا يضمن لهن الرجوع، خاصة ان أولادهن يحملون هويات تابعة للسلطة الفلسطينية وليس هويات إسرائيلية أسوة بأمهاتهم.

أما في ما يتعلق بالعلاقات الداخلية للأسرة فقد أمكن رصد مظهرين، الأول التوتر الذي يسود العلاقات ويعكس نفسه أكثر على الصغار الذين يصبحون أداة تفريغ للتوتر الناتج عن سوء الوضع، والثاني هو التضامن الأسري خاصة مع الأبناء المتزوجين، وهنا تسجل عودة قوة الارتباط  بالعائلة الممتدة.
وتشير دراسة نشرتها حديثا منظمة بتسيلم، إلى أن الجدار العازل يفصل 200 ألف فلسطيني في القدس الشرقية في الطرف الإسرائيلي من الجدار، ويفصل أيضا بين الفلسطينيين الذين يعيشون على طرفي الجدار، من خلال تقطيع أواصر النسيج الاجتماعي والحياتي القائم بينهم. وتبرهن الدراسة أن الجدار العازل الذي يحيط أيضا بالقدس الشرقية يهدف إلى فصلها عن بقية مناطق الضفة الغربية.