العقوبات البديلة جائزة شرعاً
عقوبات, جرائم, د. أحمد عمر هاشم, د. عفاف النجار, د. ملكة يوسف, علماء الدين, أدلة شرعية, إتفاقية القضاء, د. حامد أبو طالب
28 نوفمبر 2011تجسيد للرحمة
وكشفت أستاذة الشريعة في جامعة القاهرة الدكتورة ملكة يوسف جانباً آخر في المشروع، وهو الرحمة التي هي الرقة والتعطف، ومنها يشتق «الرحمن والرحيم»، وهما من أبرز أسماء الله الحسنى وأشهرها بعد لفظ الجلالة «الله»، حتى أنه ورد ذكرهما في القرآن الكريم في فواتح السور، ورحمة الله الرحيم تخص المؤمنين لقوله تعالى: «وَكَانَ بــِالْمُؤْمِنِيْنَ رَحِيْمًا» آية 43 سورة الأحزاب. ووصلت أهمية هذا الخُلق إلى أن كتبه الله على نفسه، فقال تعالى: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة» آية 54 سورة الأنعام. وقد جعل الله الرحمة من أخلاق الرسول، فقال: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ عزِيْزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيْصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِيْنَ رَءُوْفٌ رَّحِيْمٌ» آية 128 سورة التوبة. وبالتالي فإن كل المسلمين مأمورون بها اقتداء بالرسول، باعتباره المثل الأعلى لنا، حيث قال الله تعالى عنه: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيْ رَسُوْلِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» آية 21 سورة الأحزاب.
وأنهت الدكتورة ملكة كلامها بالتأكيد أن من فكروا في تطبيق هذا المشروع النبيل ثوابهم عظيم في الدنيا، لما أدخلوه من سعادة على نفوس الضعفاء من الأمهات والآباء والزوجات والأطفال والشقيقات، بإبقاء من ارتكب جريمة يسيرة وسطهم مع مراقبته عن طريق السوار الإلكتروني، أو عن طريق تشغيله في مشروع إنتاجي يدر الخير عليه وعلى أسرته ومجتمعه، بالإضافة إلى الثواب العظيم من الله، لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ».
العفو بصورة عصرية
وأشارت العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر الدكتورة عفاف النجار، إلى أن تطبيق العقوبات البديلة يدل على فكر متفتح يقدم مصلحة المجتمع ويؤدي إلى حمايته، حيث يظل المحكوم عليه بالعقوبة وسط أسرته يرعى شؤونها، ولهذا فإن المرأة هي المستفيد الأول من تطبيق هذا المشروع، لأنها الزوجة والابنة والأم والأخت، لمن يتم تطبيق العقوبة البديلة عليهم، سواء كان ببقائه وسطهم أو تأهيله لعمل اجتماعي عن طريق تعليمه حرفة أو تشغيله في عمل يستفيد منه المجتمع.
ورأت أن هذا المشروع هو تجسيد حي وبصورة عصرية للأمر الإلهي بالعفو عند المقدرة من أجل المصلحة العامة، لقوله تعالى: «خُذ العفو» آية 199 سورة الأعراف. وخلق «العفو» فيه نوع من التيسير من جانب أولي الأمر على الرعية ممن أوقعتهم الظروف في جريمة يسيرة غير مقصودة، أو متعمدة، ويكون من الظلم لهم أن يمضوا عقوبة السجن مع عتاة الإجرام ليخرجوا إلى المجتمع مجرمين جدداً، بعدما كانوا أشخاصاً أسوياء.
متوافق مع الشرع
إذا كانت هذه هي فكرة العقوبات البديلة، فماذا يقول عنها علماء الدين؟
في البداية يؤكد الرئيس الأسبق لجامعة الأزهر الدكتور أحمد عمر هاشم أن هذا المشروع لا يتعارض مع الشرع، بل إنه يمثل روح الشرع طالما أنه ليس بديلاً للحدود والقصاص، فمثلا لن يطبق لإلغاء حد السرقة أو المسكر أو القذف أو الزنى. وكذلك ليس بديلاً لحد القصاص في النفس، وذلك لأنه وردت نصوص قرآنية صريحة فيها فمثلاً في حد السرقة، قال تعالى: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» آية 38 سورة المائدة.
وقوله تعالى في حد من ارتكب الخطيئة من الرجال والنساء: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» آية 2 سورة النور. وقوله في حد القذف: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» آية4 سورة النور.
تيسير لا تعسير
ويؤكد عضو مجمع البحوث الإسلامية والعميد السابق لكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر الدكتور حامد أبو طالب، أن «مشروع العقوبات البديلة» تجسيد حي وواقعي لمظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية التي تقوم على اليسر لا على العسر. ويُقصد باليسر التخفيف، حتى أن الله تعالى قال عنه: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُم الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُم الْعُسْرَ» آية 185 سورة البقرة. وقد أوصى بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كل أفراد أمته، وخاصة أولي الأمر على الرعية، فقال: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا».
وروت لنا أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، أن التيسير كان من أخلاق الرسول، صلى الله عليه وسلم، حيث قالت: «ما خُيِّر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا». وأوضح أبو طالب أن ما فعله من أعدوا مشروع «العقوبات البديلة» ليس فيه أي مخالفة للشرع أو تنازل عن العقوبات الشرعية، بل إنه استثمار لروح التيسير حسب ظروف العصر، والتخفيف والتيسير على البشر. فقد قال العلامة ابن عابدين: «إن كثيرًا من الأحكام تختلف باختلاف الزمان: لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو لفساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد».
فوائد اقتصادية
ويحلل مدير مركز الاقتصاد الإسلامي جامعة الأزهر الدكتور يوسف إبراهيم مشروع «العقوبات البديلة» من زاوية أخرى، فيؤكد أن لتطبيقه «العديد من الفوائد الاقتصادية على الفرد، من خلال إيجاد فرصة عمل ينفق منها على نفسه وأسرته، سواء كانت هذه الفرصة عن طريق مصلحة السجون التي تعلمه حرفة أو تشركه في عمل إنتاجي لديها، وبالتالي فهو يحمي الأسرة من الضياع والتسول إذا لم تجد ما تنفقه أو غاب عنها العائل، فضلا عن أنه يوفر تكاليف الإنفاق على السجناء إذا حجزوا مع عتاة المجرمين، وتوفير الطعام والشراب لهم، ومن ثم فإن هذا المشروع سيقلل نفقات السجون، ويحول ميزانيتها إلى مشاريع إنتاجية تدر الخير على الفرد والمجتمع. ومن هنا فإن كل دولنا العربية والإسلامية في حاجة إلى الاستفادة من هذا المشروع وتطبيقه».
الرفق واللين
ويؤكد أستاذ الفقه في جامعة الأزهر الدكتور عبد الفتاح إدريس، أن مشروع «العقوبات البديلة» لا تقتصر فوائده على من ارتكب جريمة يسيرة، وإنما يمتد إلى أسرته ومجتمعه، ولهذا فإن من فكروا فيه يتصفون بالرفق، وهو خلق إسلامي أصيل، حتى أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشَّر كل من يتصف بالرفق واللين فقال: «حُرِّم على النار كل هيّن ليّن سهل قريب من الناس». وأضاف: «لا شك أن اللين من أنبل الصفات التي يضعها الله في قلب الإنسان، ولهذا قال عنه رسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويرضاه، ويعين عليه ما لا يعين على العنف»، ولهذا أمر الله به الأنبياء فقال: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» آية 159 سورة آل عمران.
وجاء في كتاب «الموطأ» للإمام مالك قوله: «بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى، فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية». وأنهى الدكتور عبد الفتاح كلامه: «لنتأمل عظمة هذا المشروع النبيل حين نقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: «من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة»، فما بالنا بمن يرحم البشر من خلال تطبيق هذا المشروع، الذي تستفيد منه مختلف فئات المجتمع ويحميه من الإجرام والعيش مع المجرمين على جريمة يسيرة اقترفها بقصد أو بدون قصد».
انطلاقاً من مبدأ الرحمة الذي ينادي به الإسلام، جاءت فكرة «العقوبات البديلة» لمن ارتكبوا جرائم عارضة بعيداً عن الجرائم التي تتطلب تطبيق الحدود والقصاص. وتقوم فكرة «العقوبة البديلة»، التي انطلقت كمشروع رائد في السعودية، على إقامة المتهم في محيط منزله طوال فترة العقوبة أو تشغيله في مشاريع إنتاجية مفيدة، وبذلك تقع عليه العقوبة ولا يبتعد عن أسرته في الوقت نفسه، حتى لا تدفع معه ثمن جريمته. فماذا يقول علماء الدين عن فكرة العقوبات البديلة؟ وما هو الموقف الشرعي من تطبيقها؟
تسعى الجهات القضائية والتنفيذية في السعودية إلى صياغة آلية لتطبيق مشروع العقوبات البديلة على المتهمين في جرائم ومشكلات لا تتطلب إيقاع العقوبة المعتادة عليهم كالسجن أو الجلد، وذلك عن طريق البحث عن عددٍ من الأحكام البديلة من الأحكام التقليدية لتحقيق الغاية من العقوبة.
وشرح وزير العدل السعودي محمد عبدالكريم العيسى الهدف النبيل من العقوبة البديلة، مؤكداً أن لفظ عقوبة بديلة يأتي من باب التجاوز في المصطلح، لأن ما يصدر من القضاء عقوبة أصلية ولها ثباتها. ولاشك أن النظر في العقوبات البديلة، لا سيما في عقوبة السجن، يحتاج إلى بعض المراجعة في القضايا اليسيرة، أما القضايا الكبيرة التي تهدد الأمن الوطني والكيان الاجتماعي والسلم الاجتماعي، فهذه لها ظروفها وملابساتها الأخرى ولا تدخل في هذا الإطار.
وأشاد بالمشروع الجديد قائلاً: «من المأمول أن يسهم تطبيق العقوبات البديلة في تخفيف أعباء السجون في البلاد، وانخفاض أعداد السجناء إلى 50 في المئة، الأمر الذي سيحد من صرف ميزانيات طائلة على المتهمين».
كما أكد المدير العام للسجون في السعودية اللواء الدكتور على حسين الحارثي، أن المساهمين في صياغة مشروع العقوبات الجديد يتطلعون إلى عزل مرتكبي الجرائم غير الخطرة عن الآخرين الخطرين، وإلى أن تساهم العقوبات البديلة في تأهيل مرتكبي الجرائم عبر ربط العقوبات بخدمات النفع الاجتماعي والتنظيف والإعمار والبناء، وخوض الدورات الدراسية والتدريبية وغيرها، كما أطلقت برامج تقنية لخدمة هذا المشروع الجديد.
وكشف مدير مشروع تواصل الإلكتروني المقدّم ماجد السعيّد، أنه من ضمن الأفكار المطروحة لتنفيذ العقوبات البديلة استخدام «سوار إلكتروني» لوضع الموقوف بين أهله ومتابعته في منزله بدلاً من السجن. ويحتوي هذا السوار على وسائل أمان، ويوضع في كاحل الشخص المطلق سراحه لتقييد تحركاته في نطاق حي معين، ولا يغادر المنطقة هذه إلا بإذن من الجهات الأمنية.