'عيدا' الأم والحب في خطر
د. علي جمعة, الطب الشرعي, عيد الأمهات, البرلمان المصري, د. عبلة الكحلاوي, د. أحمد عمر هاشم, مفتي مصر, عيد الحب, أدلة شرعية
12 مارس 2012تقليد
وعارضه الداعية الدكتور محمد يسري، الأمين العام للهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح، قائلاً: «هذه الفتوى مخالفة للشرع، لأن الأدلة الصريحة من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن الأعياد في الإسلام اثنان فقط، عيد الفطر وعيد الأضحى، وما عداهما من الأعياد، سواء كانت متعلقة بشخصٍ أو جماعة أو حَدَثٍ أو أي معنى من المعاني، فهي أعياد مبتدعة، لا يجوز لأهل الإسلام فعلها ولا إقرارها ولا إظهار الفرح بها ولا الإعانة عليها بشيء، لأن ذلك من تعدي حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ويعد آثماً شرعاً، إذا أصرّ ورفض النصيحة بالامتناع عن مثل هذا الاحتفال أو الاحتفاء».
وأكد أن أي عيد غير الأضحى والفطر، يعد تقليداً أعمى للغرب يأثم من يجيزه ويقره، وليس من يحتفل به فقط، لأن في ذلك تشبهاً بغير المسلمين. وقد نهى الإسلام المؤمنين عن التشبه لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «من تشبّه بقوم فهو منهم»، ولا شك أن ما يطلق عليه عيد الأم وعيد الحب، وغيرهما من الأعياد، لا علاقة للإسلام بها ولا يقرّها الشرع، وبالتالي لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحتفل بها أو يقرّها أو يهنئ الآخر بها، بل إن الواجب عليه شرعاً تركها واجتنابها استجابة لله ورسوله وبعداً عن أسباب سخط الله وعقوبته. وأنهى يسري كلامه بالتأكيد أن وجود الإسلاميين الآن في مجلس الشعب يعد فرصة تاريخية لتغيير كل ما يخالف الشرع، حتى يرضى الله عنهم ويدوم استخلافهم في الأرض بعد سقوط الفاسدين، لكن إن تركوا المخالفات الشرعية التي يمكن تغييرها فأخشى أن يستبدل الله غيرهم بهم كما استبدلهم بالعصاة السابقين، فقال تعالى: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ» آية 38 سورة محمد.
بدأت القضية بسؤال للدكتور علي جمعة عن حكم الاحتفال بعيد الأم، باعتباره أحد الأعياد الاجتماعية، فاجاب: «جاء الإسلام بتكريم الإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن نوعه أو جنسه أو لونه، وأضاف إلى ذلك تكريمًا آخر يتعلق بالوظائف التي أقامه الله فيها، طبقًا للخصائص التي خلـقه الله عليها، فكان من ذلك تكريم الوالدين اللَّذين جعلهما الله تعالى سببًا في الوجود، وقرن شكرهما بشكره فقال تعالى: «وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ» آية 14 سورة لقمان. وجعل الأمر بالإحسان إليهما بعد الأمر بعبادته سبحانه وتعالى، فقال: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا» آية 23 سورة الإسراء.
وأضاف مفتي مصر: «إن الله جعل الوالدين السبب الظـاهر في الإيجاد، فكانا أعظـم مظهر كوني تجلّت فيه صفة الخلق، واختصا بشرف على شرف وتكريم على تكريم، فجعل النبي، صلى الله عليه وسلم، الأمَّ أولى الناس بحسن الصحبة، بل ويجعلها مقدمة على الأب في ذلك، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ».
وعرض لمزيد من الأدلة الشرعية على جواز الاحتفاء بالأم فيقول: «يقرر الشرع الإسلامي أن العلاقة بين الولد وأمه علاقة عضوية طبيعية، فلا تتوقف نسبته إليها على كونها أتت به من نكاح أو سفاح، بل هي أمه على كل حال، بخلاف الأبوة التي لا تثبت إلا من طريق شرعي. ومن مظاهر تكريم الأم الاحتفاء بها وحسن برها والإحسان إليها».
ويرد جمعة على القائلين بتحريم الأعياد الاجتماعية، وخاصة عيد الأم، قائلاً: ليس في الشرع ما يمنع من أن تكون هناك مناسبة يعبّر فيها الأبناء عن برّهم بأمهاتهم، فإن هذا أمر تنظيمي لا حرج فيه ولا صلة له بمسألة البدعة التي يدندن حولها كثير من الناس. فإن البدعة المردودة هي ما أُحدث على خلاف الشرع، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم، العرب على احتفالاتهم بذكرياتهم الوطنية وانتصاراتهم القومية، التي كانوا يَتَغَنَّوْنَ فيها بمآثر قبائلهم وأيام انتصاراتهم. فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي، صلى الله عليه وسلم، دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان بغناء يوم بُعاث، وجاء في السنة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، زار قبر أمه السيدة آمنة وما رُؤِيَ أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْم، وذلك لأن معنى الأمومة عند المسلمين هو معنى رفيع له دلالته الواضحة في تراثهم اللغوي، فالأم في اللغة العربية تُطلق على الأصل وعلى المسكن وعلى الرئيس وعلى خادم القوم الذي يلبي طعامهم وخدمتهم، ولذلك سميت مكة «أم القرى»، لأنها توسطت الأرض ولأنها قبلة يؤمها الناس ولأنها أعظم القرى شأنًا. ولما كانت اللغة هي وعاء الفكر، فإن مردود هذه الكلمة عند المسلم ارتبط بذلك الإنسان الكريم الذي جعل الله فيه أصل تكوين المخلوق البشري ثم وطَّنه مسكنًا له ثم ألهمه سياسته وتربيته وحبب إليه خدمته والقيام على شؤونه، فالأم في ذلك كله هي موضع الحنان والرحمة الذي يأوي إليه أبناؤها».
وينهي مفتي مصر فتواه مؤكداً أن الاحتفال بالمناسبات الاجتماعية حلال ما لم تكن فيها مخالفة للشرع، قائلاً:يتجلى هذا المعنى الرفيع للأمومة عندنا مدلولاً لغويًّا وموروثًا ثقافيًّا ومكانةً دينية. ويمكننا أن ندرك مدى الهوة الواسعة والمفارقة البعيدة بيننا وبين الآخر، الذي ذابت لديه قيمة الأسرة وتفككت في واقعه أوصالُها، فأصبح يلهث وراء هذه المناسبات ويتعطش إلى إقامتها ليستجدي بها شيئًا من هذه المعاني المفقودة لديه، وصارت مثل هذه الأعياد أقرب عندهم إلى ما يمكن أن نسميه «التسول العاطفي» من الأبناء الذين يُنَبّهون فيها إلى ضرورة تذكر أمهاتهم بشيء من الهدايا الرمزية أثناء لهاثهم في تيار الحياة، الذي ينظر أمامه ولا ينظر خلفه. ومع هذا الاختلاف والتباين بيننا وبين ثقافة الآخر التي أفرز واقعها مثل هذه المناسبات، فإن ذلك لا يشكل مانعًا شرعيًّا من الاحتفال بها، بل نرى في المشاركة فيها نشرًا لقيمة البر بالوالدين في عصر أصبح فيه العقوق ظاهرة تبعث على الأسى والأسف. ولنا في رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الأسوة الحسنة حيث كان يحب محاسن الأخلاق ويمدحها من كل أحد، حتى ولو كان على غير دينه. وعليه فإن الاحتفال بعيد الأم أمر جائز شرعًا، لا مانع منه ولا حرج فيه، والفرح بمناسبات النصر وغيرها جائز كذلك، والبدعة المردودة إنما هي ما أُحدث على خلاف الشرع، أما ما شهد الشرع لأصله فإنه لا يكون مردودًا ولا إثم على فاعله».
الوسطية وليس التشدد
ويتخذ الدكتور أحمد عمر هاشم، الرئيس الأسبق لجامعة الأزهر، موقفاً وسطاً، مؤكداً أن الإسلام يدعو إلى كل مكارم الأخلاق، وفي مقدمها بر الوالدين وخاصة الأم، وبالتالي فإن المسلم مطالب بالإحسان إلى أمه طوال العام، ولا مانع من زيادة جرعة الحب والحنان والعطف عليها في ما يطلق عليه عيد الأم، أو يوم الأم كما يسميه البعض للخروج بالتسمية عن أي شبهة شرعية. ولفت إلى أن الإسلام دين يدعو إلى الحب بصفة شاملة في صوره الشرعية طوال العام، وليس في يوم معين، وقد دعانا الإسلام إلى أن نبدأ بحب الله ورسوله، فقال تعالى: «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» آية 31 سورة آل عمران. ويلي ذلك حب الإنسان للبشر جميعاً مثل الآباء والأمهات والأبناء والزوجات، وهذا حب فطري ليس فيه أي مخالفة شرعية، وهو مطلوب طوال العمر وليس يوماً واحداً في العام، وبالتالي فإن مفهوم الحب في الإسلام أعم وأشمل وأسمى ممن يدعون إلى عيد الحب لمدة يوم واحد فقط، وقد ترتكب فيه كثير من المعاصي التي نهى عنها الشرع بزعم الاحتفال بعيد الحب، الذي ليس له أصل شرعي يحدده بيوم معين، لكن إسلامنا يدعو إلى جعل السنة كلها أعياداً للحب بمفهومه الراقي وليس الغريزي الذي تستحل فيه المحرمات وتنتهك الأعراض.
وحض هاشم النواب الإسلاميين في مجلس الشعب على «التفكير الجاد في الخروج بمصر من أزماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعدم حصر اهتمامهم في قضايا هامشية يمكن معالجتها بالوعي الديني وعدم تحويلها إلى قضايا جدلية تضيع الوقت، مع أن سفينة الوطن معرضة كلها للغرق، ولهذا نهانا الإسلام عن الجدل فقال صلي الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل»، ودعانا إلى ما يطلق عليه «فقه الواقع» الذي يتطلب ترتيب الأولويات وإنزال الأحكام الشرعية عليها حسب أهميتها، وأن تكون الدعوة إلى تغيير كل ما يخالف الشرع بالحسنى والحكمة وليس بالتكفير أو التشدد، لقوله تعالى: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» آية 125 سورة النحل.
تحذير
وتوافقه في الرأي الدكتورة عبلة الكحلاوي، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر، فتوضح أن العبرة في الإسلام ليست بالمسميات ولكن بالمعاني والأفعال، فمثلا إذا كان المسلم مقصراً في حق والديه وأراد أن يبدأ صفحة جديدة معهما وليس مع أمه فقط، فلا مانع شرعاً إذا تذكر هذا التقصير في هذا اليوم المسمى عرفاً لدى العامة بعيد الأم، والتذكير بالطاعات واجب شرعاً، فقال تعالى: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ» آية 55 سورة الذاريات.
وأضافت: «لا يوجد مسلم يعتقد أن هناك عيداً في الإسلام يسمى عيد الحب، لأنه لا يوجد بذلك نص في القرآن الكريم أو السنة، لكن إذا تذكر المسلم زوجته التي تحل له أو والدته أو والده أو أبناءه وبناته بكلمة طيبة أو هدية تذكارية فقط كنوع من التعبير الصادق عن المشاعر النبيلة، فهذا لا شيء فيه، لأنه لم يرتكب محرماً، وإن كان من الأفضل شرعاً عدم تخصيص هذا التعبير الصادق عن مشاعر الحب بيوم معين، بل إن ذلك يجب أن يتكرر باستمرار، لأن المشاعر الطيبة المليئة بالحب ليست مرتبطة بساعات أو أيام معينة، فيمكن تقديم هدية في عيد الزواج أو مناسبة الميلاد أو غيرها من المناسبات الاجتماعية. والقاعدة الشرعية تؤكد أن كل ما يؤدي إلى المعصية فهو حرام، وأعتقد أن صور التعبير عن المشاعر الجميلة بدون معصية لا حرج فيها من الناحية الشرعية، وكل مخالفة للشرع حرام، سواء في يوم الحب أو الأم أو حتى عيد الأضحى وعيد الفطر».
وتنهي الكحلاوي كلامها بالتأكيد أن «الأولويات المنوطة بالنواب في المرحلة المقبلة أهم بكثير من الوقوف عند أعياد المناسبات الاجتماعية، ولا يجب أن يضيع منهم ترتيب الأولويات. وبالوعي الديني مستقبلاً عن طريق التنشئة الاجتماعية والدينية الصحيحة يمكن بيان الحلال من الحرام في سلوكياتنا أثناء الاحتفالات الاجتماعية، وأحذر نواب التيار الديني في البرلمان من الاغترار بالنفس وتزكيتها والنظر إلى الآخرين نظرة دونية أو تكفيرهم، لقوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى» آية 32 سورة النجم.
أثار وصول التيار الديني إلى منصة التشريع في البرلمان المصري تساؤلات كثيرة حول مصير الاحتفالات بالأعياد الاجتماعية، وخاصة عيدي الحب والأم. وزاد من مخاوف البعض بإلغاء هذه الاحتفالات أن هناك طلبات إحاطة عديدة من ممثلي تيارات دينية بمنعها وتحريم الاحتفال بها، وأعلنوا معارضتهم الشديدة لفتوى الدكتور علي جمعة مفتي مصر بتحليلها إذا لم ترتكب فيها مخالفات شرعية. وقد انقسم علماء الدين ما بين مؤيد لمفتي مصر ومعارض له، ولكل فريق أدلته الشرعية.