بطل العمارة المنهارة

عيسى حموتي, مهرجان الإسكندرية السينمائي

11 مارس 2013

مات العريس الشاب بعد أن هانت عليه الحياة من أجل إنقاذ جيرانه. انهارت العمارة التي يسكنها، ورغم أنه أنقذ زوجته الشابة وابنته الرضيعة، لكن البطل الشاب لم يكتف بهذا، فقد أنقذ معظم جيرانه الكبار في السن الذين لم يستطيعوا أن يغادروا المكان بمفردهم. وفي مشهد مهيب مات العريس الشاب وهو يحاول إنقاذ طفلة صغيرة، سقطت عليهما صخرة ليلقى ربه وسط بكاء العشرات من السكان الذين هالهم المشهد الإنساني... هذا المشهد ليس أسطورياً، لكنه واقع شهده سكان أحد أحياء الإسكندرية.
«لها» كانت هناك لترصد تفاصيل هذه الحكاية الإنسانية الرائعة التي تجسد الشهامة النادرة
.


عاش المصابون وأهالي المتوفين تحت أنقاض عقار المعمورة، حالة يأس ممزوجة بالخوف من مستقبل مظلم ينتظرهم تحت سياط ليالي الشتاء المظلمة الباردة في الشارع، بعد انهيار عقارهم بعد سبع سنوات فقط من تشييده، ولسان حالهم يسأل: «ماهو مصيرنا بعد انهيار العقار الذي يؤوينا؟». سؤال ما زال يسأله جميع سكان المباني التي انهارت منذ سنوات وما زالوا يفترشون الشوارع.
جميعهم ينعون حالهم وكأنهم في كابوس سيفيقون منه، مثل والدة محمد التي فقدت ابنها العريس الذي شعر بصوت انفجار أعمدة العقار، فخرج منه حاملاً طفلته الرضيعة على كتفه وزوجته التي أيقظها من النوم ثم تركهما لينقذ سكان المبنى.

وفي لقاء خاص لـ»لها» مع والدته التي ضاع صوتها من البكاء والعويل على ابنها الذي لم يتجاوز الثمانية والعشرين عاماً قالت: «ابني كان يعمل سائقاً، واشتري هذه الشقة ليتزوج، ودفع أحد عشر ألف جنيه ثمناً للشقة بنظام الإيجار القديم، وتزوج منذ عام واحد فقط. ابني كان حنوناً عليَّ وعلى والده الذي أصيب بجلطة جعلته طريح الفراش لا يقدر على الحركة. ورغم أن لي أبناء آخرين، إلا أن محمد كان بالنسبة إلي هو الدنيا كلها، كان يحضر إليَّ كل يوم وهو يحمل علاج والده المريض ويقبل يدي ويجلس مع والده ويناوله الدواء ويقدم له الطعام بيده بكل حب. ووالده رافض تناول الدواء منذ سماعه خبر وفاة محمد، كان الأب ينظر إلى زوجة ابنه متألماً عليها وعلى حفيدته، ولسان حال الأب العجوز يقول: «من سيكون لهما ويحميهما من غدر الزمان والناس من بعد محمد إلا الله سبحانه وتعالى؟»، فالجد رجل مسنّ عاجز لا يقدر على أن يتناول كوب الماء بيده ليروي ظمأه، لقد كان محمد هو الذي يساعده ويسانده». كان الاب يهذي بكلمات تمزق القلوب وهو يخاطب ابنه وكأنه أمامه لم يمت، يفتعل الأب حديثاً بينه وابنه الذي كان يلاطف والده دائماً ويخفف عنه آلام المرض. كانت الأمُّ تستعرض حياتها التي لم يعد لها معنى بعد رحيل ابنها الأكبر، فابناها الآخران أحدهما مهموم بمتاعب الحياة، والآخر حديث العهد بهموم الدنيا، وكان يعتبر أخاه الراحل مثله الأعلى.


ذهول ودموع

 كان الذهول يملأ قسمات وجه الأرملة الشابة التي لم تهنأ بزواجها من حبيبها ووالد ابنتها، الذي انتزعه الموت من بين يديها. قبل ساعات من الحادث الأليم كانت الضحكات تملأ المنزل العامر، الأب يداعب ابنته وزوجته، ويبني مع زوجته قصوراً من الأحلام، ويؤكد لها أنه ينوي أن يفعل لها الكثير ويلبي لها كل أحلامها.

تزوجا بعد قصة حب، كافح خلالها محمد طويلاً حتى يوفر لأسرة حبيبته طلباتها ويفوز بالزواج من فتاة أحلامه. لم يتمن زوجة أفضل من شيماء التي تحققت فيها كل أحلامه، فهي جميلة، رومانسية، عاقلة، ربة منزل ناجحة، فيها كل الصفات التي يتمناها أي زوج. وهو كان زوجاً حنوناً، طيب القلب، مخلصاً، يعشق أسرته ويغار على زوجته، وهي الصفات المهمة التي تتمناها كل زوجة في زوجها. تقول الزوجة إنها استيقظت من نومها فزعة بعد أن سمعت صوت ارتطام شديد، فساعدها زوجها على الفور في جمع احتياجاتها الضرورية، وحمل ابنته واستندت عليه زوجته التي اختل توازنها وأصيبت في كاحلها، وأسرع الزوج إلى خارج العمارة لينقذ أسرته من الموت، وترك زوجته وابنته على مسافة أمتار من العمارة المشؤومة وعاد أدراجه. نادت عليه زوجته بذعر وطلبت منه أن يعود إليها، لكن الزوج الشجاع قال لها: «هناك جيراننا من كبار السن سيموتون تحت الأنقاض، ولا بد أن أنقذهم وأخرجهم من العمارة بسرعة»، وابتسم الزوج الشاب وقال لزوجته: «لا تقلقي يا حبيبتي، دقائق قليلة وأعود إليك».

لم تخف الزوجة قلقها، وراحت تتابع زوجها وهو ينقذ جيرانه المسنين، فيما العمارة تنهار أكثر فأكثر. وطالبت الزوجة زوجها بأن يبتعد عن الأنقاض، لكن الزوج الشجاع واصل عمله، ونجح في إنقاذ معظم سكان عمارته... انهار جزء كبير من العمارة محدثاً دوياً هائلاً، وكسا الغبار الأفق، وخمدت الأصوات، ونادت شيماء على زوجها بذعر، لكنه لم يجِبها.


اللقاء الاخير

تقول الزوجة: «راح بعض السكان يحاولون مواساتي، ويؤكدون أن زوجي سيخرج من تحت الأنقاض، وبدأ رجال الحماية المدنية عملهم في محاولة لإنقاذ السكان المدفونين تحت الأنقاض، وكنت أسألهم عن محمد لكنني لم أتلق أي إجابة. شعرت بأن طائر الموت يرفرف على المكان، بدأت أنهار، الدموع كانت تنهمر من عيني بغزارة، أدركت أن محمد ذهب إلى غير رجعة، مات بطلاً وهو يحاول إنقاذ سكان العمارة، مات ليعيشوا هم، لم يفكر في نفسه أو أسرته التي تركها».

وتواصل الزوجة قائلة: «مضت ساعة كاملة، واقترب مني ضابط وأكد لي أن الأمل في العثور على أحياء تحت الأنقاض يكاد يكون معدوماً. أصابني الانهيار، ومضت الساعات بطيئة، كنت أبكي وأحتضن ابنتي وأنا أشعر بأنه لم يعد لي سواها، حتى تم استخراج جثة زوجي الحبيب تحت الأنقاض وهو يحتضن طفلة في عمر الزهور كان يحاول إنقاذها، لكن صخرة كبيرة انهارت عليه ليموت والطفلة في آن واحد. كانت صلاة الجنازة أشبه بعرس لزوجي الذي فقد حياته وهو ينقذ جيرانه».