جارح، قاسٍ ومدمّر...

علم النفس, حقوق الإنسان, عنف جسدي, عنف لفظي, كارول سعادة

02 أبريل 2013

العنف بشتى أنواعه مرفوض أخلاقياً وإجتماعياً جملةً وتفصيلاً! ففي عصر التحضّر والثقافة والتمدّن والإختراعات، باتت هذه الممارسات الهمجية والبربرية تقتصر على فئة محدودة من الناس، يتبرّأ منها المجتمع الحديث. فالتعنيف يعكس علاقة «مريضة» ما بين المعنف والمتلقي، بحيث تضمحّل كلّ مبادئ العيش الكريم والمساواة والحقوق والواجبات وترابط الأسرة وسواها.
إنّ أكثر ما يُتداول به هو العنف الجسدي وإنعكاساته السلبيّة على الفرد والمحيط، بحيث يتناسى البعض نوعاً أكثر إيلاماً، يؤذي في الصميم ويصعب التعافي منه، ألا وهو العنف اللفظي والمعنوي، أي التجريح المتعمّد بالكلام. فالتعنيف اللفظي ظاهره عفويّ إنفعاليّ، وباطنه متعمَّد وعنيف. إذ يمسّ بكيان الإنسان وشخصيّته وكرامته، ويجرّده من الثقة بالنفس حبّ الحياة.
وهذه آفة متنامية بين الناس، تطال جميع الأفراد في مختلف العلاقات، بين الشريكين، أو بين الأهل والأولاد، أو بين الإخوة، أو حتى بين ربّ العمل والموظف.


تطول المواعظ عن أهمية إحترام حقوق الغير، إذ تظهر الشعارات الرنّانة التي تندّد بالعنف وتؤكد أنّ «حرية المرء تنتهي عند بداية حرية الآخر»، والمقصود بذلك عدم التطاول على الغير وتعمّد إيذاء الآخرين، وعدم المسّ بالكرامات الشخصية وتحطيم المعنويات والتقليل من كفاءة المرء وقدرته. بيد أنها تبقى حبراً على ورق عندما نرى أنّ العلاقات الإنسانية مخروقة بهذا النوع من عدم التكافؤ المعنوي الذي يمكّن شخصاً من «التحكّم» في حياة غيره ومشاعره، عابثاً بثقته بنفسه ومزعزعاً إحترامه لشخصه.
يصمت الكثيرون وتتعدّد الأسباب، بين «ضحّية» راضخة للأمر الواقع، أو اخرى رافضة حتى الإعتراف بالحاضر المرير. ذلك أنّ المعنّف يستعمل ألفاظاً من شأنها أن تخلّف تداعيات معنوية ونفسية تنعكس إجتماعياً ونفسياً وتحتاج إلى وقت وجهد ومساعدة للتغلّب عليها ونسيانها.

فالتعنيف اللفظي يهدّد المرء ليقبع - لاحول له ولا قوّة - من دون مواجهة أو محاسبة، ويُتيح للجاني تدمير الإنسان بكلّ برودة أعصاب وعن سابق تصوّر وتصميم، إذ يستمتع بالنتيجة التي يتوصّل إليها مع الوقت. وهذا أمر لا يجوز البتة.
تشرح الدكتورة كارول سعادة، إختصاصية في علم النفس العيادي وأستاذة جامعيّة، أنواع التعنيف وتداعياته على الإنسان، مفصّلةً شخصيات المعنّف كما الضحية. وتتطرّق إلى أبرز الحلول التي يمكن إعتمادها لتخطّي هذه الآفة. كما تعطي الإختصاصية في علم الإجتماع ساندرا جبّور وجهة نظر المحيط إزاء هذه التصرفات الخاطئة.


أنواع التعنيف

تقول الدكتورة سعادة: «إنّ التعنيف هو عندما يتخطّى الإنسان حدود حرّيّة الآخر أو كيانه ووجوده. ذلك أنه يحاول دخول الحقل الخاص بالمرء بطريقة ضدّ قوانين الإنسان، بغية السيطرة عليه والتحكم فيه وإشعاره بالدونية». ويلجأ المعنِّف إلى مختلف الوسائل التي تمكّنه من تحقيق مأربه، غير آبهٍ بالتداعيات الناجمة عنها.
تضيف: «أنواع العنف متعدّدة، ويمكن وضعها في ثلاث خانات رئيسية، ألا وهي العنف الجسديّ، العنف المعنويّ واللفظي، والعنف والتحرّش المبطّن في العمل. وهذه بدورها تنقسم إلى فئات متشابكة، لتكون النتيجة واحدة: التعدّي على حرية وحقوق الغير».


العنف الجسدي

وتوضح سعادة: «يشمل التعنيف الجسديّ إستخدام الضرب وإيذاء جسم الآخر والتسبّب بالألم. وهدفه تحطيم وجود الآخر. كما له أسباب عدة، أبرزها أنّ المعنِّف كان يخضع لهذا النوع من المعاملة في طفولته، أو بسبب وجود مشاكل في العلاقة بين الشريكين، أو بفعل إعتماد هذا النمط كطريقة تحاور وتواصل، أو بسبب تأثير مادّة معيّنة مثل الكحول أو المخدرات وسواها».

تتابع: «يطال هذا النوع من التعنيف غالباً الأولاد والنساء، وقد يتعرّض له بعض الرجال أيضاً. أمّا شخصيّة المعنِّف فتكون متهوّرة، وعلى الأرجح أنه لا يرى سبيلاً بديلاً لإيصال فكرته بطريقة إيجابية. كما يكون عصبياً ولا يتحمّل وجود مفروض في حياته. وقد يعاني من إنحراف في الشخصية أو حتى من مشاكل نفسية دفينة». أمّا الضحية، فيكون قد إعتاد القبول والرضوخ، أو يكون أضعف جسدياً ولا يستطيع المقاومة. وفي معظم الحالات، تحصل هذه الأمور بين الشريكين، إذ تتعرّض المرأة للضرب، أو بين الأهل وأولادهم الذين يعانون من العنف الجسديّ.


العنف اللفظي والمعنوي والنفسيّ

تؤكّد سعادة أنّ «التعنيف اللفظي او الكلامي يكون معنوياً ونفسياً، إذ هو إستعمال كلمات جارحة وتبنّي تصرّفات وسلوك تهدف إلى تحطيم شخصية الآخر وجرحه وإشعاره بالدونية، بشكل متكرّر، حتى يكون الفاعل في موقع السيطرة». وتشدّد على أنّ «إستخدام الكلام الجارح لا يكون بشكل عفويّ وعابر ولمرّة واحدة. وهو لا ينمّ عن إنفعال ، بل إنّ المعنِّف يكون مقتنعاً بوجهة نظره ولا يشعر بذرّة من الخطأ أو الندم. كما أنه لا يعتذر عمّا صدر منه، بل يعتمد هذا النمط بشكل متكرّر ليتحكّم في الآخر ويسيطر على وجوده ويقمعه ويُشعره بالأقلية والدونية. فهو يحاول تحطيمه معنوياً ونفسياً».
غالباً ما يكون المعنّفون متسلّطين وذوي شخصية نرجسيّة زائدة عن حدّها. وقد يكونون رجالاً أو نساء، أهلاً أو أولاداً.

تتحدّث سعادة عن أبرز دلائل التعنيف اللفظي التي تكون «الشتم والتهديد الإبتزاز العاطفي والتخفيف من قيمة الإنسان والإنتقاد المبالغ به والإتهام واللوم، إضافةً إلى إعتماد طريقة «الصمت المعنِّف» أي عدم مخاطبة  الشخص أو الردّ عليه». ويبقى الأساس هو قصد الإساءة والتجريح من دون اي نيّة واضحة للإعتذار او العدول عن فعل الأذيّة.
ولا بدّ من التنويه إلى أنّ هذا النوع من التعنيف قد لا يترافق مع غضب واضح، بمعنى أنه يمكن عدم إستخدام صوت عالٍ للتعنيف، وإنما تكون النبرة هادئة لكنها تخلق حالةً من التشكيك بهويّة الآخر وتُشعره بالذنب وتتحكّم في هويّته.
تفسّر الدكتورة سعادة شخصيّة المعنف الذي يستخدم العنف اللفظي والمعنويّ إذ يكون «محبّاً للسيطرة على حرّيّة تحرّكات الآخر، وديكتاتوراً لا يتعامل بسواسية مع الغير، وقامعاً لحريات الآخر. كما أنه لا يهتمّ لوجود الشخص الآخر، ويهمله أو يحطّمه وينتقده بالفشل، أو يُخيفه ويهدّده، أو حتى يحرمه من الوجود العاطفي والتفاهم، ويستخدم القسوة».


العنف والتحرّش المبطّن في العمل

تقول الدكتورة سعادة إنّ «التعنيف والمضايقة في مكان العمل يتمثلان بتشغيل المرء في ظروف غير إنسانية من ناحية الوقت، أو المهمّة، أو حتى التقدير والتشجيع. كما قد تصل إلى حدّ منع الزملاء من التعامل مع هذا الموظف، إضافةً إلى إنتقاد عمله وعدم تشجيعه أو تحفيزه. كما قد يتمّ تهديده مادياً أو إستغلال حريته عبر تحطيم معنوياته على المدى الطويل، كجزء من الحوار بين ربّ العمل والموظّف. قد يبدأ الأمر بكلام مؤذٍ وتصرفات قاسية وتجريح والحدّ من الحريات، بشكل مبطّن ومقصود، وصولاً إلى تحرّش جنسيّ واضح كحجّة بوجود مصلحة مشتركة».


تداعيات وإنعكاسات

تحذّر سعادة من «نتائج لا تُحمد عقباها وإنعكاسات نفسية وجسديّة وإجتماعية يعاني منها الأشخاص الذي يتعرّضون لأي تعنيف، مهما كان، خاصةً التعنيف الكلامي والمعنويّ. فالأولاد قد يعانون من إكتئاب ويواجهون مشاكل في التطوّر النفسي، من حيث الذكاء والإنتباه والتركيز والذاكرة. كما قد يعانون من عدم إستقرار عاطفيّ ويصبحون خاضعين للغير. وقد يصبحون بدورهم معنِّفين، جسدياً أو معنويا. وقد يُقدِمون في سنّ المراهقة على محاولات تعاطي المخدّرات أو الكحول أو حتى الإنتحار».
تضيف: «أما البالغون، فقد يعانون من ثقة بالنفس مزعزعة، إضافةً إلى الإكتئاب والشعور بالذنب وضياع الهويّة تجاه الآخر والشكّ بالذات». كما يعانون من مختلف العواقب التي قد يتعرّض لها الأولاد.


حلول

تؤكّد سعادة أنّ التعنيف اللفظي والمعنوي يؤثر سلباً على كل جوانب الحياة. فلا بدّ من منع تكرار حدوث  ذلك، عبر رفض الأمر ومجابهته. وتشير إلى «أنّ الخطوة الأولى هي الوعي على العنف وعلى الشخصيّة الخاضعة التي يعانون منها، وذلك لرفض هذا الواقع المفروض عليهم. وتدريجياً، تبدأ الأمور بالتغيّر. كما على الأشخاص أن يكونوا على يقين بأنهم ليسوا بمفردهم، لأنّ الجمعيات والمراكز والمختصين موجودون لمساعدتهم على تخطّي هذه الأزمات. كما يمكنهم العمل على تقوية شخصيّتهم والتخلّص من عقدة الشعور بالذنب والدونيّة». وتجدر الإشارة إلى أنّ الضحية غالباً ما تكون متواطئة بشكل غير مباشر مع المعنِّف، بسبب التصرفات الخانعة. فالمفروض إذاً عدم السكوت ورفض تقبّل الأمر ومواجهة الموضوع واللجوء إلى المساعدة على المستوى النفسيّ وتصحيح الهويّة، وعلى المستوى القانوني لتحصيل الحقوق.


نظرة المجتمع

تقول الإختصاصية جبّور: «لا نزال في مجتمعاتنا نخجل من فكرة البوح بوجود مشكلة معيّنة في حياتنا، خوفاً من نظرة الناس وردّة فعلهم وإنتقادهم اللاذع. ففكرة التعرّض للعنف المعنوي والكلامي لا تقابَل بالوقوف مع الضحية، كما في حال التعرّض للعنف الجسدي. ذلك أنها عُرضة للتأويل. إذ قد ينفي البعض حدوث ذلك، مؤكدين انه مجرّد سوء تفاهم أو طريقة في التعبير والتواصل». فلا معايير إجتماعية واضحة تحدّد مفهوم « الإساءة اللفظية المتعمّدة» والتعنيف النفسي، ظناً منّا أنه شجار عابر أو فورة غضب أو زلّة لسان أو هفوة تُنسى مع الوقت.
 تتابع جبّور: «من جهة أخرى، لا يستسيغ معظم الناس فكرة التعالي على شخص ما كلامياً، أو تحقيره أو إذلاله، لأن في ذلك إنتقاصاً من قيمته البشرية ومكانته. فلا يتقبّل المجتمع ذلك، بل يدافع عن المظلوم ويعتبر أنّ الظالم هو الذي تعدّى عليه. لكن المشكلة تبقى في التصنيف، إذ لا نضع ذلك في خانة «التعنيف»، بل نعتبره قلّة إحترام، أو إنتقاصاً للأخلاق ودناءة في التعامل أو ما شابه».

في المقابل، تنوّه جبّور إلى أنّ «الشخص الإنطوائي والمنزوي على ذاته وغير المتخالط إجتماعياً، قد يواجه صعوبة أكبر في الخروج من مشكلته ومواجهة الظلم والتعنيف الكلامي، لأنه يفتقد الدعم الذي يقدّمه له أفراد عائلته أو مجتمعه ومحيطه. فعند الأزمة، يعطيه التكاتف ومدّ يد العون الأمل ويدفعانه إلى الأمام، وهو ما يمكّنه من التمرّد على واقعه المرّ ورفض الخضوع. فالعلاقات العائلية والإنسانية والصداقات والروابط هي ما يحفّز الإنسان على المضيّ قُدُماً وعلى توير ذاته وتحسين وضعه والتمتّع بالثقة بالنفس».
تشير جبّور إلى أنّ «طريقة التعامل مع الشريك والأولاد في المجتمع تبيّن كيفية التعامل في حرمة المنزل، وذلك من خلال إنتقاء الألفاظ واللغة الجسدية المستعملة وتعبير العينين وسواها. وهذا ما يعطي تلميحات إلى وجود مشكلة أو عدمه، وإنما بشكل عام. وبعد الغوص في الأسئلة والتعمّق، يمكن التحليل وكشف وجود شائبة، إذا طلب أحد الفريقين - غالباً ما يكون الضحية - ذلك.


في الختام

العنف الجسدي قد يكون مؤلماً إلى درجة كبيرة ولكن كدماته وآثاره تظهر للعيان، وبالتالي يمكن إصلاح ما حصل من أذى سواء بشكل كلي أو جزئي. لكن العنف اللفظي يستمر لمدة أطول ويتطلّب علاجاً نفسياً أكبر، لأنه للأسف لا يترك علامات تجعلنا نعلم أن هذا الشخص يعاني منه لأنه عادة لا يتحدث عنه. بيد أننا نشاهد قلقه وخوفه الدائمين أو ربما انزواءه وانطواءه. ولكن في خضم كل ما نحياه من متغيرات حياتية، القليل منا فقط وللأسف من يستطيع أن يفهم أن من أمامنا يمكن أن يكون قد عانى من عنف نفسي.


سيكولوجية العنف:

  • العنف صورة من صور القصور الذهني حيال موقف معيّن.
  • العنف وجه من أوجه النقص التقني في الأسلوب والإبداع في مواجهة معضلة وحلّها.
  • العنف دليل من دلائل النفس غير المطمئنة.
  • العنف مؤشر لضعف الشخصية ونقصان في رباطة الجأش وتوازن السلوك.