اللاجئات إلى لبنان يحترقن ما بين نار التهجير والظروف الاجتماعية الصعبة

اللاجئات إلى لبنان,يحترقن ما بين نار التهجير,والظروف الاجتماعية الصعبة,ظروفاً عائلية,تحديات كبيرة,مواجهة نفسها,يعيشون في مخيمات,بيوت مستأجرة,الآمر الناهي,أوضاع صعبة

بيروت - غنى حليق 30 يناير 2016

تعاني المرأة بشكل عام ضغوطاً وظروفاً عائلية صعبة، تضعها أمام تحديات كبيرة في مواجهة نفسها وعائلتها ومجتمعها، وتتفاقم هذه الصعوبات مع اختلاف طبيعة المرأة ومكان سكنها وأسلوب عيشها.  ففي لبنان ما يقارب مليوناً وثلاثمئة ألف لاجئ، غالبيتهم من النساء والأطفال، ويعيشون في مخيمات أو مجمعات خاصة أو في بيوت مستأجرة، ويشرف على كل مخيم شاويش، يكون مسؤولاً عن الساكنين فيه، ولا يمكن أي شخص الدخول الى المخيم أو الخروج منه إلا بإذن منه، مما يجعل اللاجئات تحت رقابته الشديدة، فهو الحارس، لا بل الآمر الناهي. تعيش اللاجئات السوريات في المخيمات في ظل أوضاع صعبة، أو بالأحرى مزرية بسبب قساوة العيش وعدم توافر أدنى شروط الحياة، ونقص الرعاية الطبية والاجتماعية، مما يحمّلهن ما يفوق طاقتهن. مشكلات اللاجئات السوريات في معظم المناطق هي واحدة، رغم اختلاف المكان ومستوى العيش، فأزمة السكن وغلاء المعيشة والافتقار إلى الرعاية الصحية والتعليمية... مشكلات عامة ويعاني منها بعض اللبنانيين أيضاً. زارت «لها» مخيمات اللاجئين السوريين في البقاع الاوسط، وبعض المناطق الجبلية، وأجرت حوارات ميدانية مع اللاجئات للوقوف على معاناتهن، كما اطلعت من المسؤولة الإعلامية في جمعية «كفى»، السيدة مايا عمار، على أوضاعهن وكيفية معالجة مشكلاتهن في المخيمات، وكان هذا التحقيق.


مخيمات البقاع الأوسط

سمراء، سيدة سورية في العشرين من عمرها، متزوجة ولديها طفلان، نزحت إلى لبنان مع زوجها وعائلته منذ أربع سنوات. لم تهنأ سمراء بزواجها من بدايته، فهي ما إن تزوجت حتى طُلب زوجها إلى الخدمة العسكرية (الاحتياط)، فشعرت بالإحباط واضطرت للهرب والنزوح معه إلى لبنان. تقول سمراء: «شهر العسل بالنسبة إلينا كان شبه كارثي، إذ أمضيناه في العراء، لا بيت ولا سقف يقينا من البرد القارس. كنا وعائلة زوجي ما يقارب الـ 20 شخصاً ونسكن جميعاً في خيمة واحدة. عندما وصلنا إلى المخيم، كان المطر ينهمر على رؤوسنا، ورائحة التراب الرطب تُزكم أنوفنا. لم نكن نملك أغطية كافية ولا «حصائر» نقعد عليها، كما لم تسمح ظروفنا المادية بشراء مدفأة، مما تسبب بمرض معظمنا. لم تكن الأشغال متوافرة لرجالنا، حتى نتمكن من استئجار بيت. وبعد معاناة صعبة، تأقلمنا مع الوضع، واستطعنا بمساعدة هيئة الأمم المتحدة بناء خيم أفضل، بعدما قدموا لنا الخشب والشوادر ووسائل التدفئة وخزانات المياه».
منذ نزوحها، عاشت سمراء معاناة صعبةً وأنجبت طفليها في ظروف مأسوية، فقد حملت بابنها البكر من دون أن تعلم، ولمّا اكتشفت حقيقة حملها، لم تستطع المتابعة مع طبيب مختص إلا في شهرها التاسع، لأن ظروفها المادية لم تكن تسمح لها بذلك، وهيئة الامم المتحدة لم تكن تغطي نفقات المستوصف في بادئ الأمر، كما لم يكن الأطباء يزورون المخيمات ليتابعوا الحالات المرضية أو حالات الحمل الموجودة فيه.
حالة سمراء الصحية لم تسمح لها بالولادة الطبيعية بمساعدة قابلة قانونية. ورغم ذلك، لم تقصد الطبيب إلا في أواخر أيام حملها وبعدما ضمنتها هيئة الأمم صحياً. توضح سمراء: «في آخر أيام حملي، زرت أحد أطباء المستوصف التابع للهيئة، ولمّا حان موعد ولادتي، سافر الطبيب لتأدية فريضة الحج. كانت ولادتي صعبة جداً وبقيت يومين في المستشفى أعاني آلام المخاض من دون أن يساعدني أحد من الأطباء المناوبين فيه بحجة أن لكل مريض طبيبه الخاص. تعرضت للموت في المستشفى لأن طبيبي مسافر، وكانت القابلة المداوِمة هناك تحاول إسعافي بلا جدوى. لم يقدّموا لي أي مُسكّن يساعدني على تحمّل الآلام، فساءت حالتي ودخلت في غيبوبة، مما اضطر الأطباء الى التدخل الفوري لإنقاذي... وكنت أسمعهم يقولون إذا لم يتم إسعافها خلال خمس دقائق فستفقد الجنين وبالتالي تفقد حياتها».
معاناة سمراء هذه تنطبق مع الأسف على أغلب الحوامل من اللاجئات السوريات وفق ما أفادت، فهن لا يلقين الرعاية الصحية التامة. مثلاً، على الرغم من حالة سمراء الصحية الحرجة، لم يتم استبقاؤها في المستشفى بعد الوضع، بل طُلب منها المغادرة في اليوم نفسه رغم وضع طفلها الحساس، الذي ولد وهو يعاني مشكلة في التبوّل، ولا علاج له في المستشفى. شعرت سمراء بالإهانة والذل والتمييز في المستشفى، وطلبت الفرج من ربّها فتعود الى بلادها ولا تحتاج الى مساعدة أحد... وتقول: «رغم معاناتي الكبيرة، لم أجد من يساعدني، فشعرت بالذل والإهانة والعوز، خصوصاً بعدما عرفت أن طفلي مريض ويحتاج الى تحاليل ومتابعة صحية. كنت أركض به من مشفى الى آخر وهو لم يكمل أيامه الثلاثة بعد. حتى طهوره لم يكن موفقاً، فبكيت كثيراً ولعنت حظي في ظل التهجير والحرب التي أذلتني ووضعتني في أصعب المواقف». كانت المشاكل والأزمات المتلاحقة تُرخي بثقلها على سمراء وتُشعرها بالقهر والتمزق ما بين ولادتها وحالة طفلها الصحية الحرجة وصعوبة تأمين الحليب له، وباقي مستلزماته، وعدم قدرتها على تسجيله بشكل رسمي، ليزيد البرد القارس معاناتها معاناة.
بالصبر والصلاة ومواساة الأهل، استطاعت سمراء تجاوز محنتها والتأقلم مع وضعها الجديد وعيش حياتها بشكل شبه طبيعي. وفي ما يتعلق بطفلها فقد ساعدها أحدهم في الوصول إلى طبيب مختص عالجه من دون مقابل، وحلّت مشكلة البرد بشراء «صوبا» بعدما وجد زوجها عملاً. أما مشكلة تسجيل ابنها رسمياً على نفوس زوجها فلم تلقَ حلاً، لأنها لا تستطيع العودة إلى سورية لتسجيله هناك، خصوصاً أنها لا تملك إلا شهادة ميلاد للتعريف عنه. رغم كل هذه المعاناة، حملت سمراء من جديد وأنجبت طفلاً ثانياً... وعن ذلك تقول: «حملت للمرة الثانية من دون قصد، وكان عمر ابني ثلاثة أشهر، لم أكن أعرف كيفية تجنّب الحمل أو العوارض التي تشير إلى حدوثه، فأمي ليست معي لترشدني وتنصحني، وهذا الأمر يؤلمني كثيراً، لأنني ابتعدت عن أهلي منذ أربع سنوات، ولم أرهم منذ ذلك الحين». لا تنوي سمراء إنجاب المزيد من الاطفال في الوقت الراهن، وهي الآن تكرس كل وقتها وجهدها لتربية طفليها وحمايتهما، وتتمنى أن تستقر الأوضاع في بلدها حتى تعود الى بيتها وأهلها... وتنهي سمراء كلامها مؤكدةً: «نحن كغيرنا من البشر، يحق لنا بالعيش الكريم، كما أطالب بالمساواة والمعاملة الحُسنى، وأتمنى فقط العودة إلى بلدي».

أحلام: الحرب قضت على مستقبلي
أحلام فتاة في الـ24 من عمرها، عزباء وتعيش مع أهلها في أحد مخيمات البقاع الغربي. نزحت منذ أربع سنوات هرباً من القصف والموت الذي يجتاح مدينتها، بعدما كانت تعيش حياة كريمة ومرفّهة في منزلها، وتدرس في إحدى جامعات دمشق، إذ رفض أهلها تركها هناك لتتابع دراستها لكونها فتاة وقد تتعرض لمخاطر كثيرة هم بغنى عنها. تعاني أحلام كغيرها من الفتيات النازحات في ظل الظروف الصعبة التي يعشنها، فهي غير معتادة على هذا النمط من العيش، وتقول: «نعيش هنا أسوأ الظروف، لأن كل شيء تغير علينا، فبعدما كنا مكرّمين، نتعلّم ونتطور ونبني مستقبلنا، وجدنا أنفسنا نسكن في خيمة تفتقر الى أبسط وسائل العيش، ففي بيوتنا بلاط وسجاد وحمّام ووسائل تدفئة، أما هنا فالتراب تحتنا والشوادر فوق رؤوسنا، فلا حيطان ولا أرضية ولا سقف يحمينا من الثلوج. في مستهل رحلة النزوح، تعذبت كثيراً وشعرت باليأس والإحباط الشديد، فلا ماء ولا كهرباء ولا وسائل تدفئة، وبقيت 15 يوماً من دون حمّام فقرفت من نفسي وشعرت بالذل... كما أُصبت بالتهاب رئوي حاد ومكثت في المستشفى 4 أشهر بسبب تنشق الدخان المنبعث من النار التي كنا نشعلها... لم يكن لدينا حطب وكنا نوقد الأكياس والقماش أو أي شيء قابل للاشتعال لنتدفأ. تعبت كثيراً من المرض والتشرد، وأتت فاتورة المستشفى لتزيد الأمور تعقيداً، إذ اضطر والدي إلى استدانة حوالى 7 ملايين ليرة لبنانية لعلاجي، لأن هيئة الامم المتحدة لا تغطي كامل نفقات الاستشفاء والعلاج، خصوصاً أنه لم يكن يعمل بعد، لا هو ولا إخوتي».
ترى أحلام أن مستقبلها ضاع بسبب التهجير، فشهادة البكالوريا التي تحملها لا تنفع شيئاً، وهي لا تستطيع متابعة دراستها الجامعية في لبنان، كما أن وضعها الصحي جعلها لا تقوى على العمل، وحتى فرصتها بالزواج ضاعت منها، لأن أغلب الشبان الذين تحلم بالزواج بهم موجودون في بلدها سورية، إضافة إلى أنها تكره أن تخطب وتتزوج في الخيمة كباقي الفتيات، فالزواج بالنسبة إليها بيت وفرش ووسائل حديثة وحياة كريمة، وليس خيمة وفرشة اسفنج وحراماً...
تجيد أحلام الخياطة وتجد فيها سلوتها، وقد اشترت ماكينة خياطة، وهي تستغل مهارتها حالياً في خياطة الفساتين لصبايا المخيم ونسائه، وتحاول قدر المستطاع مساعدة والدها بمصاريف العائلة، وتقول: «أحب الخياطة وأجيدها وأستغل موهبتي فيها بعمل مفيد رغم أنني لا أقوى كثيراً على الحركة، لأن رئتيّ ضعيفتان وأشعر بتعب دائم، ولكن أحاول مساعدة والدي قدر المستطاع في مصاريف العائلة، خصوصاً أننا عائلة كبيرة ولدينا احتياجات كثيرة، وهيئة الأمم المتحدة لم تعد تساعدنا كما يجب. لا نعرف متى نعود إلى بلادنا، وهذا الامر يؤلمني كثيراً لأن مستقبلنا ضاع بسبب الأزمة السورية التي أتمنى ألا تطول حتى نعود إلى بيوتنا آمنين». كغيرها من الصبايا، تحلم أحلام بالزواج وتكوين عائلة، ولكنها ترى أن الحرب قطعت في نصيبها، فلو أنها في بلدها لكانت الآن متزوجة، فشقيقتها تزوجت منذ فترة في خيمة وبتجهيزات وإمكانيات بسيطة جداً، وهذا ما ترفضه هي بالمطلق. تتمنى أحلام العودة بأسرع وقت إلى بلدها لتمارس حياتها الطبيعية وتنقذ ما تبقى من سني عمرها من التشرد والعوز.

مايا عمار: يعانين بسبب أوضاعهن الخاصة كنساء
تعمل جمعية «كفى» على مساعدة اللاجئات السوريات في لبنان والوقوف إلى جانبهن وتوعيتهن ودعمهن نفسياً وقانونياً، خصوصاً المعنفات منهن والمعرضات للتحرش والاستغلال الجنسي. وترى مايا عمار المسؤولة الإعلامية في جمعية «كفى» أن وضع اللاجئات السوريات مأسوي، وأنهن إلى جانب معاناتهن من اللجوء والفقر والعوز إلى الحاجات الضرورية وصعوبة تأمينها، يعانين بسبب أوضاعهن الخاصة كنساء، كتحمل مسؤولية العائلة في ظل غياب الزوج والخضوع لضغوط العمل، والعنف الأسري الممارس من الزوج، إذ تتعرض بعض النساء للضرب والإهانة والذل، وتُجبر الفتيات الصغيرات، أو بالأحرى القاصرات على الزواج المبكر، إضافة إلى تعرضهن للاستغلال الجنسي.
وتقول عمار إن جمعية «كفى» تستقبل هؤلاء النساء لدى وصولهن إلى مراكز الجمعية، وتقف إلى جانبهن، وتعاملهن كأي امرأة تتعرض للضغط والعنف، وتقدم لهن الخدمة نفسها التي تُقدم للنساء اللبنانيات. وفي أغلب الأحيان يكون هؤلاء النساء قد تعرضن للاستغلال الجنسي من خلال تشغيلهن من جانب أحد أفراد أسرهن، أو عبر استقطابهن من شبكات دعارة. ووفق مصادر مكتب حماية الآداب والإتجار بالبشر، ثمة أعداد كبيرة  من النساء السوريات اللواتي يتم التغرير والمتاجرة بهن جنسياً، هذا فضلاً عن ترويجهن للمخدرات والمتاجرة بها. فوضع النساء اللاجئات الهش يجعلهن عرضة للخداع، إذ تأتي الفتاة من سورية بلا تجارب أو خبرة في الحياة، فتقع في براثن هذه الشبكات وتدخل في مأزق كبير لا تعرف الخروج منه. وقد يتم أحياناً استقدامهن من سورية بهدف تشغيلهن أو تزويجهن، وتكون هذه الزيجات مدبّرة بحيث يهدف الزوج الى تشغيل زوجته في الدعارة. وللأسف الشديد، تُسجّل نسبة كبيرة من هذه الحالات بين أعداد القاصرات.

وتفيد عمار بأن سكن الفتيات في المخيمات. جواهر والمعاناة المزدوجة
لجواهر قصة مختلفة عن باقي السيدات... ومعاناة وعذاب مزدوج. استوقفني حالها في طريق عودتي وهي تجلس أمام طشت الغسيل وتُشعل النار لتسخين الماء، فيما طفلها البالغ من العمر سنة ونصف السنة تقريباً يلهو بدلو الماء وبعض الأغراض المفروشة أمامه على التراب. ركنتُ السيارة في الجهة المقابلة، وكان يفصلني عن جواهر حاجز من المياه الآسنة، ربما هو عبارة عن مياه الصرف الصحي المتسربة من المخيم. في البداية استأذنتها بالتصوير، لعلمي أن الدخول الى المخيم يتطلب إذناً من الشاويش المسؤول عنه، فالدخول الى المخيم أو الخروج منه رهن بموافقة الشاويش. خلال تصويري لجواهر، قرأت في عينيها حكايات كثيرة ولمست آلاماً كبيرة دفعتني للمغامرة باجتياز الحاجز الذي يفصل بيننا بصعوبة. ولما وصلت إليها، ذهلت لطريقة عيشها هي وابنها، إذ كان الدخان المنبعث من النار التي تشعلها ينشر روائح مؤذية كفيلة بقتل أي شخص يشتمّها. شعرت بالاختناق وسألتها عن حالها والسبب الذي يجعلها تتنشق وابنها هذه السموم القاتلة، فأجابت بأنها لا تملك المال لشراء الحطب، والطفل بحاجة الى حمام ساخن. عندها طلبت منها الانتقال الى مكان بعيد من هذا الجو الملوث لتحدّثني عن معاناتها، ولاحظت في غضون لحظات كيف التفّ الجميع حولي من باقي الخيم ليخبروني عن مآسيهم، وفي قلبهم حرقة وغصة... دعوني إلى إحدى الخيم، فلبيت الدعوة، وهناك استمعت الى معاناتهم، فجميع من في المخيم نزحوا من سنة ونصف السنة تقريباً، ودخلوا لبنان خلسة بعدما اجتازوا الجبل مشياً على الأقدام، بمن فيهم جواهر، وهم يعانون قساوة العيش في العراء، ويتألمون من الفقر وشدة البرد.
جواهر سيدة في الـ 18 عمرها، نزحت مع عائلة زوجها سيراً على الأقدام وهي تحمل طفلها طوال الطريق الوعرة والشاقة، إذ لم يكن هناك من يعينها في حمله، أو يساعدهم على الدخول بطريقة شرعية. زوجها هجرها منذ فترة وتفلّت من مسؤوليته ابنهما، وحموها رجل طاعن في السن ويحتاج الى من يساعده وزوجته، أي حماتها، فحالها ليست أفضل من حاله، حتى أشقاء زوجها لا يستطيعون مساعدتها لأن لهم أولادهم وعائلاتهم. تتحدث جواهر عن وضعها وعيناها تدمعان حزناً، فهي اضطرت لترك بيت أهلها والنزوح مع عائلة زوجها من أجل ابنها، وتحاول جاهدة تأمين حياة كريمة له، ولكن كيف لها هذا وهي لا تستطيع الخروج من المخيم وترك ابنها للعمل، خصوصاً أن والده لا يعترف به أو حتى يسأل عنه، وجدّه عاطل من العمل ولا يستطيع تأمين الحليب أو الطعام له. تقول جواهر: «تحملت المشقة من أجل أن أبقى مع ابني للاعتناء به، لأنه لا يمكنني تركه مع أهل زوجي بعدما تنصل الأخير من مسؤولياته وتربيته. أعيش بقلق وألم وحيرة، وأفكر دوماً بتأمين عيش طفلي وتلبية حاجاته، خصوصاً أننا اجتزنا الحدود خلسة ولا نملك أوراقاً رسمية لنسجّل أسماءنا في لوائح الأمم المتحدة ونحصل على مساعدات. لا أملك سوى شهادة ميلاد لابني. وتكلفة السكن في الخيم مرتفعة، وعمّي يستدين ليؤمّن إيجار الخيمة البالغ 170 ألف ليرة لبنانية، وليشتري لابني الحليب، بعدما حاول جاهداً حث ابنه على تحمل مسؤولية الطفل ولكنه لم يتجاوب معه، حتى ابني لم يتقبل والده ولم يشعر بلهفة عليه. لقد هجرنا منذ ولادة الطفل، ولا أعرف السبب، وأنا بقيت مع أهله لأنني أم والأم لا تترك ولدها». تبكي جواهر ليل نهار من سوء وضعها، وتحاول إيجاد حل لمشكلتها بلا جدوى، خصوصاً بعدما مرض ابنها ولم تستطع تطبيبه، لذا فهي تتألم كثيراً وتتمنى الموت، على حد تعبيرها.
وخضوعهن لسلطة شاويش المخيم، يشكّلان عائقاً أمام حمايتهن. فرغم تعاون الجمعية مع الدولة، لا يمكن «كفى» الدخول بسهولة الى المخيم للقيام بحملات توعية وتقديم إرشادات تهدف الى حماية الأولاد والقاصرات والنساء. وتضع الجمعية كل مكاتبها في خدمة اللاجئات، بحيث تقدم لهن  الاستشارة القانونية والمتابعة النفسية والاجتماعية، كما تلاحق قضايا الاولاد المعرّضين للعنف والاستغلال. وتؤكد عمار أن مهمتهم في المخيمات معقدة جداً، لأنهم يتعاملون مع أشخاص يعيشون في ظل أوضاع صعبة. وعن آلية عمل جمعية «كفى»، تقول عمار: «نقصد المخيمات في البقاع من خلال برنامج حماية الأطفال، وندرّب أشخاصاً سوريين في المخيمات على برنامج وقانون حماية الاولاد ومكافحة العنف المبني على نوع اجتماعي، ونحاول عبرهم الوصول إلى سكان المخيم ونقوم  بزيارات ميدانية ونقدم المعلومات للموجودين فيه ونبلغهم بأننا جاهزون في حال قصدونا أو كانوا بحاجة الى المساعدة. وعادة يتم التركيز على الأهل بالتنسيق مع المندوبين فننظم لهم حملات توعية داخل المخيم في ما يتعلق بتزويج القاصرات والعنف وضرب الاولاد، كما نعمل على توعية النساء في المخيم ومساعدتهن في حال تعرضن للعنف أو الاستغلال الجنسي».
وترى مايا أن وضع اللاجئات السوريات سيئ جداً، خصوصاً في ظل سياسة التضييق التي تُمارس عليهن، وإذا بقي الوضع على ما هو عليه من دون اتخاذ خطوات ناجحة وفعالة فسنذهب إلى الاسوأ، خصوصاً في ما يتعلق بتزويج القاصرات.

سارية ومسؤولية سبعة عشر شخصاً
سارية أو الحاجة «أم محمد»، سيدة في العقد الخامس من عمرها، متزوجة ولديها 10 أولاد، ست بنات وأربعة شبان، أكبرهم في عمر الـ 28 وأصغرهم في الثانية عشرة. نزحت أم محمد من سورية إلى لبنان منذ أربع سنوات مع عائلتها الكبيرة وزوجها وضرّتها وأولادها أيضاً، وسكنوا جميعاً في خيمة مقسومة إلى قسمين، قسم لها ولأولاها، والقسم الآخر لضرّتها وأولادها الخمسة، مما يعني أن تلك الخيمة تضم حوالى 18 شخصاً، وعليها هي كأم وزوجة أولى أن تتحمل كامل مسؤوليتها اليومية تجاههم من تحضير الطعام وتأمين المياه والقيام بأعمال التنظيف وغيرها، فالوسائل المتاحة في الخيمة بسيطة وبدائية، والظروف المحيطة بها صعبة جداً، إذ لا وسائل تدفئة ولا بطانيات كافية ولا فرص عمل متوافرة. تقول سارية: «همّي كبير جداً، ولا أعرف كيف أدبّر أمور عائلتي. في البداية كانت الخيمة التي نسكنها شبه بدائية، وتهبط على رؤوسنا مع أول هطول للأمطار. لكن مع الوقت، وبدعم من الامم المتحدة، استطعنا بناءها وتدعيمها بشكل أفضل، ونصبنا خيمة ملاصقة لها ليصبح لدينا غرفة للشبان وأخرى للبنات، إضافة إلى غرفة المطبخ والحمام. عانينا كثيراً وعشنا ظروفاً قاسية لم نعتد عليها من قبل، كالاستحمام بالماء البارد في عز الشتاء، والنوم على الأرض من دون غطاء بغياب وسائل للتدفئة، هذا فضلاً عن عدم توافر الطعام ومياه الشرب». كل هذه المآسي كانت تُشعر سارية بالعجز والقلق والخوف، خصوصاً أن حياة أبنائها ومستقبلهم باتا مهددين، فهي إذا عادت إلى ديارها، ستعرّض أولادها لخطر الحرب، وإن بقيت في المخيم، سيضيع مستقبل أولادها التعليمي، خصوصاً أنهم كانوا لا يزالون يكملون تعليمهم في سورية، وتوقفوا عن الدراسة بعد نزوحهم إلى لبنان.
تحزن سارية كثيراً لوضع عائلتها وتقول: «هنا لا يستطيع أولادي متابعة تعليمهم، لأن أقساط المدارس والجامعات مرتفعة جداً، ويحتاج كل ولد الى 100 ألف ليرة شهرياً بدل مواصلات حتى يصل إلى المدرسة، وهذا بالنسبة إلينا أمر مستحيل تأمينه، فزوجي بالكاد يعمل ومدخوله ضئيل جداً، حتى أبنائي يعملون بالزراعة بأُجور متدنية وبالكاد تكفينا ثمن خبز وطعام». تتمنى سارية أن تعود إلى ديارها بأسرع وقت، وأن تصحو من كابوس التهجير الذي يضطهدها، لأنها تعبت من العيش تحت وطأة الظروف القاسية، خصوصاً أن هيئة الأمم المتحدة لم تعد تمدّهم بالمساعدات وهم بالكاد يستطيعون تأمين الطعام ووسائل التدفئة.

اللاجئات السوريات في الجبل يعانين قسوة البرد وسوء الوضع الاجتماعي
تبدو معاناة اللاجئات السوريات واحدة، ومشاكلهن لا تختلف كثيراً، فمعاناة اللاجئة في منزل في الجبل هي نفسها معاناة اللاجئة التي تسكن في المخيم، إذ يعانيان الأوضاع المأسوية ذاتها، من حيث السكن المشترك والغلاء المستفحل وصعوبة المواصلات والتعليم.
سارية لاجئة سورية تسكن في منطقة بحمدون في جبل لبنان، نزحت إلى لبنان منذ سنة ونصف السنة تقريباً مع عائلتها وعائلة زوجها واستأجروا منزلاً وسكنوا فيه جميعاً. يتألف البيت من ثلاث غرف، وهم ثلاث عائلات، لذا اتخذت كل عائلة غرفة لها وتشاركوا معاً المطبخ والحمام. تقول سارية: «عانينا في البداية من شدة البرد، إذ لم يكن البيت مؤهلاً للسكن كما يجب بحيث تنقصه بعض الحيطان ووسائل التدفئة، فالطقس هنا بارد جداً ويحتاج إلى مدفأة أو «صوبا»، ولم نكن قادرين مادياً على تأمينها، لأن الإيجار مرتفع والمعيشة غالية جداً في لبنان، والوضع يختلف تماماً عن سورية».
لسارية ثلاثة أولاد وهي لا تستطيع تسجيلهم في المدرسة، لأن الدوام المدرسي المخصص للاجئين السوريين في الجبل في فترة بعد الظهر، أي من الساعة الثانية وحتى الثامنة مساءً، كما أن المدرسة بعيدة جداً عن المنزل وتتطلب وسيلة نقل وهم لا يملكون سيارة ولا يستطيعون تحمل تكاليف باص المدرسة. أيضاً النهار قصير جداً ويخافون على أولادهم من العودة ليلاً في برد الشتاء وثلوجه. تضيف سارية: «بصراحة، وضعنا صعب جداً لا بل مأسوي، والأولاد سيخسرون مستقبلهم لو بقي الحال على ما هو عليه، فنحن لا نقوى على دفع نفقات المواصلات بشكل يومي، وأخاف على أولادي من العودة ليلاً في ظل العتمة والعواصف والثلوج والبرد القارس». تعاني سارية وعائلتها، وفق قولها، مشكلات كثيرة، أبرزها الإقامة، فهم يقيمون الآن بشكل مخالف للقانون، ولا يستطيعون التنقل كثيراً، فالأوضاع في سورية خطرة جداً ولا تمكّنهم من العودة إليها، وفي حال ذهبوا إلى الحدود ليسوّوا وضعهم فلن يُسمح لهم بالعودة مجدداً بسبب القرارات التي اتخذتها الدولة اللبنانية للحد من توافد اللاجئين.
تشكو سارية من غلاء الأسعار ولا تقوى هي وزوجها على تحمل المزيد من المآسي، خصوصاً أن الأشغال في الجبل شبه معدومة للرجال والنساء على حد سواء، وهي تحاول إعطاء دروس خصوصية في القرآن لتسد جزءاً بسيطاً من النفقات. وتقول: «لدينا مصاريف كثيرة، إيجار البيت والكهرباء والمواصلات... لو كنت في سورية لما واجهت كل هذه المشاكل وتحمّلت النفقات. ففي سورية منزلنا ملك لنا، والمدراس قريبة ومجانية، والمواصلات رخيصة جداً».
لا تقتصر مشاكل سارية على الأمور المعيشية والعامة، بل تتعداها إلى الأمور الخاصة والعائلية لأنها تسكن مع حميها وحماتها وأشقاء زوجها، مما يضاعف الضغط العائلي عليها، فهي محجبة ولا تتصرف براحتها داخل بيتها، كما تمضي يومها في فض المشاكل بين الأولاد، أو في المطبخ لتحضير الطعام وإعداد الخبز مع باقي النسوة ليوفرن ثمنه... أكثر ما يزعج سارية شعورها بعدم الاستقلالية، وسماعها كلاماً مزعجاً من الآخرين، واضطرارها لمسايرة الوضع حتى لا تدب المشاكل في ما بينهن.
أما سحر، سلفة سارية، فهي حامل الآن في شهرها السابع وتسكن معها في البيت نفسه وتعاني المعاناة ذاتها، إضافة إلى وضعها الخاص كامرأة حامل، إذ لا تستطيع متابعة حملها عند طبيب قريب بسبب غلاء المعاينة، ولا حتى شراء الادوية اللازمة. تقول سحر: «المعاينة هنا غالية جداً، وإذا أردت الذهاب إلى المستوصف التابع للأمم المتحدة عليّ اجتياز مسافة طويلة مشياً على الأقدام حتى أصل إلى الطريق العام، أستقل بعدها سيارة أجرة لتقلّني إلى منطقة البقاع، مما يستغرق حوالى ثلاث ساعات من الذهاب والإياب». تساعد سحر النساء في تحضير الطعام ومتابعة الأولاد، وأيضاً في نقل غالونات المياه من النبع إلى المنزل، مما يرهقها كثيراً لكونها حاملاً، فالعائلة كبيرة واستهلاك الماء كثير... «رغم أن كلاً منا يشارك في العمل والمصروف، لا نستطيع سد حاجات المنزل، فأغلب رجالنا عاطلون من العمل وليس لدينا مدخول كبير لنلبّي كل المتطلبات». سبق لسحر أن أنجبت طفلة في لبنان وقد عانت عند ولادتها بسبب بعد المستشفى عن المنزل وصعوبة الوصول إليه، وكانت خائفة جداً من أن تصادف ولادتها أثناء الليل، إذ تمنع بلدية المنطقة النازحين السوريين من التجول من الساعة العاشرة ليلاً وحتى السادسة صباحاً، وهذا يسبب لهم ازعاجاً كبيراً وخوفاً دائماً من تخطي قوانين المنطقة في حال اضطروا إلى الخروج ليلاً. لم تستطع سحر حتى الآن تسجيل ابنتها في قيد نفوسها، ولا تملك أوراقاً رسمية لها سوى شهادة الميلاد، كما أن الطفلة لم تتلقّ اللقاحات اللازمة، خصوصاً أنها عانت كثيراً بعد ولادتها في طقس بارد مع انعدام وسائل التدفئة وتوافر الغذاء لها ولابنتها. وتقول سحر إنهم اليوم يملكون مدفأة واحدة يضعونها في غرفة الحماة ويجلسون عندها أغلب وقتهم، وعند النوم يعودون الى البرد في غرفهم.
جميع من في المنزل يتشاركون المأساة ذاتها، إضافة إلى معاناتهم الشخصية، إذ يختلف عدد افراد كل عائلة وأعمارهم، وتتفاوت مشاكلهم ما بين النساء والبطالة ونفقات المدرسة وخلافات الاولاد، مما يؤدي الى إرهاقهم وتشتتهم وخوفهم على ضياع مستقبل أولادهم في انتظار الفرج.

حياة مرشاد: أعباء الحرب تقع على كاهل المرأة بشكل مضاعف
ضمن فاعليات «حملة 16 يوماً» العالمية لمناهضة العنف ضد المرأة، نظّم التجمع النسائي الديموقراطي بالشراكة مع صندوق الأمم المتحدة للسكان في لبنان، وفي إطار «مشاركة المجتمعات المحلية والقادة المحليين في الوقاية من العنف ضد المرأة»، لقاء يهدف إلى مناقشة تأثير اللجوء السوري في النساء السوريات واللبنانيات على حد سواء، تحدثت خلاله المسؤولة الإعلامية في التجمع حياة مرشاد عن معاناة النساء مع اللجوء، وأعقب حديثها عرض لفيلم وثائقي بعنوان «هن» تضمن شهادات حية لنساء سوريات عن تأثير اللجوء فيهن. وفي معرض حديثها، قالت مرشاد: «بصفتنا منظمة نسوية تعمل على مناهضة كل أشكال العنف ضد النساء، وتهدف الى تحقيق المساواة بين الجنسين، نتناول تأثير الأزمة السورية في النساء، السوريات منهن واللبنانيات. لقد انطلقنا من قناعتنا بأن أعباء الحرب تقع على كاهل المرأة بشكل مضاعف، فالنساء والفتيات أكثر عرضة لمختلف أشكال التمييز والعنف أثناء الأزمات، وهن يواجهن عقبات إضافية، وأحياناً مستعصية في ظل انعدام تحقيق العدالة والمساواة في علاقات السلطة بين الرجل والمرأة في معظم المجتمعات».
لقد دفعت المرأة السورية ثمن الحرب الدائرة في بلادها باهظاً، قبل أن تعاني مأساة اللجوء والعيش في الشتات، والذي يمكن اختصاره بالوقائع الآتية: ”الاغتصاب، التحرش، العنف المعنوي والجسدي، الصدمات النفسية، العنف المنزلي الذي يفقد المرأة الشعور بالأمان في منزلها، الزواج المبكر والقسري في سياق النزوح وتناقص الموارد، تحول عدد من اللاجئات إلى مهنة البغاء والدعارة بهدف تأمين لقمة العيش لأولادهن وعائلاتهن، تنامي جرائم الشرف في حق من تم اغتصابهن خلال الحرب في سورية، فقدان الحد الأدنى من المقومات الاقتصادية والاجتماعية، التعرض للاستغلال مقابل الحصول على الخدمات، اضافة إلى مشاكل الاكتظاظ والجو السياسي غير الآمن... من دون أن نغفل بالطبع، أنه وعلى غرار المرأة اللبنانية، تصطدم المرأة السورية بضعف الإطار القانوني في لبنان لحماية المرأة من العنف القائم على النوع الاجتماعي، مما يسمح للمرتكبين بممارسة العنف ضد المرأة من دون الخوف من أي عقاب، سواء من الدولة أو من المجتمع نفسه. وكأن كل هذه الكوارث لا تكفي المرأة السورية، ليُضاف إليها ارتفاع مستوى التوتر بين اللبنانيين والسوريين، مما يزيد الطين بلّة. وقد علت في الفترة الاخيرة صرخة الكثير من اللبنانيين بسبب التدفق الهائل للاجئين السوريين الى بعض البلدات اللبنانية وما استتبع ذلك من ضغط على الخدمات الأساسية وعلى رأسها تلك الصحية والتعليمية”.
ومما لا شك فيه، أن واقع اللجوء قد كرّس أشكالاً من العنف ضد النساء، مما يفرض على المجتمعات والقادة المحليين والجمعيات الأهلية والدولية اتخاذ خطوات عملية والعمل على إيجاد سبل واستحداث آليات لمساندة النازحات السوريات وحمايتهن من العنف الممارس عليهن، بالاضافة إلى تخفيف الاحتقان بينهن وبين نظيراتهن اللبنانيات ببناء جسور الوحدة بينهن لمواجهة هذا الواقع الصعب الذي يحرم اللاجئات السوريات من حقهن بأن ينعمن بمكان آمن في الإطارين العام والخاص.

CREDITS

تصوير : غنى حليق