ما سرّ جاذبية الرواية؟
كتابة الأرقام, مركز المشاعر الإنسانية, كاتبة, كتب, شاعرة, قاعة /صالة / غرفة مكتبة, رواية / قصة, عبده وازن, مكتبة إلكترونية, عباس بيضون, رنا إدريس, كتابة شعرية, لينا كريدية
27 فبراير 2012الشاعر والكاتب عبده وازن
أعتقد أنّ النثر لم يكن يوماً غريباً عن الشعراء، فهم خير من كتبه. سواء على هامش الشعر أم في صميم مسارهم الأدبي. واليوم، بات الشعر فناً نخبوياً، أقصد الشعر الحقيقي وليس الشعر السياسيّ والخطابي والمنبري، فهو بطابعه التجريبيّ والتحديثيّ سبق قرّاءه ولا سيّما في العالم العربي. لقد تطوّر الشعر كثيراً أمّا القرّاء فلا. هكذا أصبح قرّاء الشعر نخبة قليلة.
قد لا يكون لافتاً جداً لجوء الكثير من الشعراء العرب والعالميين إلى كتابة الرواية والنصوص السردية. وأظنّ أنّ السبب الأوّل هو عدم قدرة القصيدة على احتواء ما أسمّيه اليوم «مآسي» العصر الحديث التي تتجلّى في الحروب والثورات والكوارث، إضافة إلى هيمنة ثقافة العولمة والتكنولوجيا والمعلوماتية والإيديولوجيا وسواها، على حياتنا اليومية.
الشعر فنّ مُرهف وشفّاف ولمّاح ولا يستطيع فعلاً أن يستوعب مشكلات الحياة وهمومها الكثيرة. أمّا الرواية فهي قادرة تماماً على التعبير عن شجون الإنسان وقضاياه الكثيرة والتحولاّت التي يعيشها في عالم حافل بالصخب.
وهناك أمر آخر أيضاً، فالنثر يجذب الشعراء دوماً ويُغريهم فينصرفون إلى كتابته محققين نصوصاً إبداعية مُهمّة. والشاعر، كما أشرت، يجد في النثر فرصة مهمّة للخروج من عُزلته ولمواجهة المجتمع والعالم.
رانيا المعلّم مديرة دار الساقي للنشر
تُحقّق الرواية اليوم أعلى المبيعات بين إصداراتنا الأدبية، لأننا لا نستطيع الجزم بأنّ نسبة مبيعاتها تفوق كتب السياسة والفلسفة والفكر.
تبيع الرواية أكثر من الشعر والقصّة القصيرة على سبيل المثال، وإنما هذا لا يمنعنا كدار نشر من أن ننشر مجموعات شعرية لأسماء كبيرة تفرض نفسها على الساحة الأدبية في كلّ ما تكتبه مثل أدونيس وعباس بيضون وغيرهما.
أمّا المجموعات القصصية فهي شبه غائبة عن إصدارات «دار الساقي». وعن نسبة تراجع الشعر الذي كان في يوم من الأيام على رأس قائمة المبيعات الأدبية العربية، فأنا أعتقد من وجهة نظري الشخصية أنّ الشعر نفسه لم يعد يُحاكي القرّاء ولا ذوقهم واحتياجاتهم.
أمّا الرواية فهي تنقل همومهم وتساؤلاتهم بطريقة مسلّية وشيّقة. وعلى امتداد الصفحات يبقى القارئ مشدوداً لاكتشاف ما تُخبئه الرواية. فهي من الأنواع التي تفتح المخيّلة وتساعد القارئ في الهرب من واقعه إلى عالم متخيّل قد يكون شبيهاً أو مناقضاً لهذا الواقع.
وانطلاقاً من رأينا كدار للنشر أقول إنّ النشر بصفة عامّة مغامرة. إنما نشر الشعر في شكل خاص مغامرة أكبر وأصعب. فالشعر ليس دائماً فناً ممتعاً. إنّه يحتاج إلى «حكّ راس» وتفكير عميق بينما قراءة الرواية تُعدّ عملية أكثر سهولة وإمتاعاً.
وبالرغم من ذلك نحن ننشر كلّ أشكال الروايات طالما أنّها تستجيب لمستوى فني معين. فنصدر روايات تُعدّ صعبة كتلك التي يكتبها حسن داوود مثلاً. وروايات أخرى أكثر سهولة ثمّ نترك قرار الاختيار للقارئ نفسه.
الشاعر عباس بيضون
قد يعتقد البعض أنّ ظاهرة انتقال الشعراء من الكتابة الشعرية إلى الكتابة النثرية، وتحديداً الرواية، ليس إلاّ هروباً من الشعر. أو أنّه حيلة يتبعها البعض للوصول إلى القاعدة الجماهيرية الكبرى بعدما انحسر جمهور الشعر بالنُخب.
والبعض يرى أنّ تغيّر صورة الشعر وصوته، من الموزون والمُقفّى إلى قصيدة النثر، كان تمهيداً لولوج الشاعر نفسه عالم النثر أو بمعنى آخر الرواية. عن هذا السؤال رصدنا تجارب شعراء متمرّسين خاضوا أخيراً مضمار الكتابة النثرية والروائية هم: أمجد ناصر في روايته الصادرة عام 2010 عن دار الآداب «حيث لا تسقط الأمطار» وعباس بيضون في «مرايا فرانكشتاين» و»ألبوم الخسارة» الصادرتين عن دار «الساقي» وعبده وازن في السيرة المتخيّلة «قلب مفتوح» والرواية الموجهة للفتيان «الفتى الذي أبصر النور» ورواية جديدة بعنوان «غرفة أبي» تُبصر النور قريباً...
عندما أكتب الشعر أعرف أنّ السوق اليوم ليس للشعر. هو عصر الرواية بامتياز. وإنما أستمرّ في كتابة الشعر لأنّها مسألة مزاج. فأنا أكتب الشعر انسجاماً ومزاجي الشعري وليس لأي اعتبار آخر.
وعندما كتبت الرواية والنصوص النثرية كانت أيضاً مسألة مزاج. أنا عُرفت شاعراً وسأظلّ شاعراً وعندما أكتب الرواية تراهم يقولون الشاعر عباس بيضون كتب رواية. انتقالي من نوع أدبي إلى آخر ليس تغييراً لجلدي أو تحولاً أدبياً وإنما القضية مجرّد استثناء.
وثمّة أمر قد لا يلتفت إليه البعض وهو أنني، إلى جانب كوني شاعراً، أعمل في الصحافة وأكتب مقالة أسبوعية أو أكثر. أنا متفرّغ لهذا العمل وأكتب النثر على مدار العام تماماً كما أكتب الشعر. فأن يكتب عباس بيضون النثر ليست مفاجئة.
هذا بالإضافة إلى أنني أكتب قصيدة النثر، وهذه التسمية لم تأت اعتباطية لكونها تُزاوج بين الشعر والنثر. من هنا يمكنني القول إنّه في الشعر أيضاً نجد حيزاً للنثر. قصيدة النثر هي شيء قائم بحدّ ذاته. وهكذا حدّد روّاد قصيدة النثر من غير العرب أمثال بودلير وبرتراند.
في آخر إصدارين لي «مرايا فرانكشتاين» و»ألبوم الخسارة» كتبت النثر ولكنّي لم أراعِ السوق ولا القرّاء بل راعيت رغبتي وانطلقت منها. فأنا أكتب منذ زمن قصيدة النثر. وأنا أرى أنّ هذا النوع من القصائد يوحي إلى حدّ كبير بالمعنى ولا يقوله أو يُشير إليه ولا يُفصّله.
بهذا المعنى أعتبر قصيدة النثر هي قصيدة الصمت. لغة الصمت. وعندما ألجأ إلى الرواية أو الأقصوصة ألجأ إلى فنّ ناطق تحدوني إلى هذا المنحى رغبتي إلى التكلّم. وإذا كان الشعر فناً مكتوماً فإن الرواية هي فن ناطق.
والشاعر قد يصل إلى مرحلة لا تعد لديه فيها طاقة على الكتمان، وهذا ما دعاني إلى الاتجاه صوب الكتابة النثرية. كان لديّ رواية نشرتها عام 2002 عن دار «رياض الريّس»، ثمّ نشرت العام الماضي كتاب «مرايا فرانكشتاين» وهذه السنة رواية «ألبوم الخسارة» عن دار «الساقي». وأنا بصراحة أنجزت روايتين قبل سنوات عديدة إلاّ أن الداعي من عدم نشرهما شخصي.
لينا كريدية روائية وصاحبة دار «النهضة العربية»
دار «النهضة العربية» اهتمّت في شكل خاص بالمقرّرات والكتب الأكاديمية. وبعد عام 2006 دخلنا مشروع قصيدة النثر. ورغم أنّه ليس هناك إقبال عليها إلاّ أننا اتخذنا على عاتقنا قصيدة النثر كمشروع. ونحن من الدور التي تؤمن بالتخصص وندرك أهمية ذلك.
لدينا مثلاً دار «أصالة» للنشر والتوزيع وهي الدار المتفرّعة من دار «النهضة» والمختصّة بنشر كتب الأطفال التربوية. وشقيقتي شيرين الأستاذة في تربية الأطفال هي المسؤولة عن الدار لأنّه يصبّ في مجال تخصّصها، وهذا ما نسعى له.
ورغم أنني نشرت روايتين إلاّ أنّهما صدرتا عن دار «الآداب» وليس «النهضة العربية». من هنا أقول إنّ دور النشر عامة تهتم بطبيعة الحال بالجانب التجاري وكلّنا بات يعلم أنّ الإقبال على الرواية هو الأكبر بين كلّ الأنواع الأدبية الأخرى.
ونحن نعتبر أنّ ثمّة الكثير من دور النشر المهتمّة بنشر وتوزيع الروايات، لذلك فضّلنا أن يكون تركيز دار النهضة على الكتب الأكاديمية الخاصّة بالأساتذة الجامعيين.
وعن موضوع التحقيق أراه مُحقاً في طرحه للمسألة، فالرواية هي بالفعل عامل جذب لكلّ القرّاء لكنها تجمع بين المعرفة والتسلية والسهولة والعمق. أمّا الشعر فهو كمن يتسلّق جبلاً. قراءة الشعر تحتاج إلى التفكير والتحليل والجهد والوقت.
وأسلوب الحياة اليوم يعتمد بالدرجة الأولى على السرعة والسهولة وأخذ المعلومة بالطريقة الأبسط والأسرع.
رنا إدريس مديرة دار «الآداب» للنشر
منذ تأسيس هذه الدار ونحن نعلم أنّه مستقبلاً سيكون الشكل الأدبي المناسب للقرّاء هو الرواية. والعام المُقبل تُكمل دار الآداب عامها الستين. هذا يعني أنّه ثمّة وعي مبكر للدور الذي ستلعبه الرواية على الساحة الأدبية.
والواقع يؤكّد أنّ الشعر تراجع كثيراً والقصة القصيرة شبه معدومة. أمّا الرواية فاستطاعت بمقوّماتها وشكلها وحجمها أن تُصبح الأكثر جاذبية في عيون القرّاء. فيها يجدون ضالتهم. يمسكون خيطاً من الرواية ويستمرّون على امتداد صفحات عديدة في عملية بحث وتحليل.
التشويق لا ينقطع سريعاً كما هو الحال في القصيدة أو القصة القصيرة. والرواية اليوم باتت تستجيب لمزاج جماعي وليس مزاجاً فردياً فحسب. قد يجد القارئ متعته في الرواية لكونها تحوي في ذاتها الكثير من الأنواع والأصناف.
هناك مثلاً الرواية التاريخية والنفسية والاجتماعية والسياسية... من يحب الشعر لا يمكنه أن يُقاوم رواية شعرية مثلاً وكذلك الأمر بالنسبة إلى المهتمّين بالفلسفة والفكر، فإنهم سيتهافتون حتماً لقراءة رواية فكرية أو فلسفية. هذه الشمولية التي ينطوي عليها مصطلح «رواية» تجعلها نقطة جذب لكلّ محبي القراءة على اختلاف أذواقهم واهتماماتهم. الرواية باتت أيضاً تحكي سيراً وهذا يهمّ كلّ محبي السيَر وهم كُثُر أيضاً.
نحن اليوم في صدد إصدار «سيرة روائية» كتبها عبد الإله بن عرفة عن الفيلسوف المتصوّف ابن الخطيب. ولكن في شكل عام ليست كلّ رواية قادرة على أن تبيع وتنجح. فالقرّاء يختلفون في أذواقهم ولكلّ قارئ أسبابه في اختيار هذه الرواية أو تلك.
فالبعض يهتم للتقنية المُعتمدة والبعض الآخر تستوقفه القصّة والحبكة... أمّّا نحن في الدار فنتحمّس لنشر أي نوع من أنواع الرواية شرط أن تتوافر فيها الجودة الفنية والمواضيع الجديدة واللغة السليمة.
مستوى الكتابة هو معيارنا الأوّل. والجدير ذكره أنّ ثمّة اهتماماً متزايداً اليوم بالكتاب السياسي والقرّاء راغبون في اقتناء الكتب الخاصة بهذا الإطار، إلاّ أنّ التفوّق يبقى للرواية.
الشاعر والروائي أمجد ناصر
ليس لدي جواب قاطع بخصوص الحضور المتزايد للرواية في سوق النشر والتداول القرّائي على حساب الشعر ولكن يمكنني أن أفكِّر ببعض النقاط، منها، مثلاً، ضعف إنتاجنا العربي في الرواية مذ وجدت طريقها إلينا مع العقود الثلاثة الأولى للقرن الماضي.
حتى ذلك الوقت كان الإنتاج الإبداعي الأدبي العربي يتركز في الشعر، حتى إن أولى «ثوراتنا» الأدبية حصلت في الشعر، وحازت، بالفعل، هذا الاسم: ثورة الشعر الحديث. حصل هذا في منتصف أربعينات القرن الماضي.
انشغل الفضاء الأدبي العربي أعواماً طويلة، إن لم أقل عقوداً، بعد ذلك في «تأييد» الشعر الحديث أو الهجوم عليه. فمن يراجع مجلتي «الآداب» و«شعر»، وهما أهم سجلّين أدبيين لتلك الفترة، سيجد أن معظم الحديث يدور حول الشعر فيما يصعب أن تجدي اهتماماً بالرواية والقصة والسرد عموماً.
ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني، في نظري، أن الساحة الأدبية العربية لم تكن تولي الرواية اهتماماً فعلياً فبدت وكأنها بمثابة درجة ثانية أو ثالثة في سلّم الإبداع الأدبي. فالرواية نثر والنثر ليس كالشعر في المزاج العربي عموماً، وليس له الحظوة نفسها في مدونتنا الأدبية التراثية، ولم يعرف التراكم الذي عرفه الشعر.
نحن بهذا كنا نشبه أوروبا عند انتقالها من الإقطاع إلى الرأسمالية الأمر الذي ترتب عليه بروز نمط أدبي «برجوزاي»، نمط مديني، ابن اللحظة الأوروبية المقبلة على التصنيع وعلاقات المدينة في مواجهة الإقطاع ومفاهيم النبالة والأرستقراطية حتى قيل إن الشعر هو فن الأرستقراطية فيما الرواية هي فن اللحظة الصاعدة في أوروبا آنذاك: أي البرجوازية.
بهذا المعنى يمكنني أن أقول إننا لم نكن شعوب رواية، لا على صعيد الإنتاج ولا على صعيد القراءة. هناك كتاب رواية لدينا ولكن لم تكن لدينا اتجاهات ومدارس في هذا الفن الأدبي، حتى أن هناك بلداناً عربية كاملة لا تتوافر على روائي يعتدُّ به.
خذي العراق مثلا، لقد قدم لنا الإسهام الأكبر في حركة الشعر العربي الحديث (والقديم كذلك) ولكنه لم يقدم روائياً واحداً يمكن أن يقف على قدم المساواة مع ما فعله العراقيون في الشعر. أصلاً، لا مجال للمقارنة بين الإسهام العراقي في الشعر والفن التشكيلي وبين السرد الروائي والقصصي.
البلد العربي الوحيد الذي توافر على نوع من التقاليد وبرزت فيه أجيال متعاقبة في الكتابة الروائية هو مصر، وأحسب أن الأمر يتعلق بالتطوّر «المديني» الذي عرفته مصر الحديثة قبل سائر البلدان العربية، فضلا عن المزاج المصري وتقبله فن «الحكي» وتعلّقه به وشيوعه الشعبي أكثر من أي بلد عربي آخر حتى ليمكن وصف المصريين بأنهم «حكواتيون».
كل هذا الاستطراد كي أقول إننا نعرف نقصاً في الرواية والقص مقارنة بالشعر، وإن ما نراه اليوم من إقبال على كتابة الرواية وتداولها القرائي إنما يندرج مدرجاً صحياً، ويصنع نوعاً من التوازن في مدونتنا الأدبية الراهنة. هذا هو ظني عموماً رغم كثرة الغث في الرواية الراهنة، وقد تكون هناك تفسيرات سوسيولوجية لهذا الهبوب العربي على الرواية لست في وارد نقاشها هنا.
أما في ما يخصني فلم يكن اتجاهي للكتابة الروائية مجرد تعبير عن ضيق حيال الشعر وانحسار رقعة انتشاره وقراءته، فأنا من الذين يعتبرون الشعر أصل التلفظ الأدبي وهو باقٍ ما بقي الإنسان على الأرض وان اختلفت أشكال هذا الشعر ومقارباته.
توجهي إلى الرواية ليس مفاجئاً كثيراً لمن يعرف كتابتي، فقد راكمت الكثير في مجال أدب الأمكنة وسردياتها، وهذه كتابة ليست بعيدة، تماماً، عما تعرفه الرواية من استراتيجيات سردية ولغوية. قد تكون راودتني فكرة توسيع مدى رقعة التعبير عندي.
وممكن أيضاً أن يكون راودني شعور بأن هناك موضوعات وقضايا لا يقدر الشعر، حتى في صورته السردية عندي، على تناولها والتوسع فيها. لست متأكداً من دوافع زملائي الشعراء الذين ذهبوا إلى الرواية ولكني لا أعتقد أنها بعيدة كل البعد عن دوافعي، فنحن، في نهاية المطاف، أبناء لحظة ثقافية واجتماعية وسياسية عربية واحدة.
ما يشتغل في قلب هذه اللحظة وما تحفل به يطال الجميع تقريبا. أرجع إلى بداية كلامي لأقول إن تشديدي على أولوية الشعر في مدونتنا الأدبية العربية لا يعني تحوّله إلى خبز يومي.
الشعر فن نخبوي. ورغم كونه الأول عربيا إلا أن ذلك لم يعن، في أي لحظة، أنه كان خبز الناس اليومي. ثم إن الشعر مراتب وطبقات. هناك ما هو سهل التلقي بسبب تفاعله مع حدث أو قضية أو عاطفة معينة وهناك ما هو صعب ويحتاج إلى تأنٍ وقراءة تحفر في باطنه.
الرواية، ختاماً، ليست «ديوان» العرب الحديث، أي علامة زمننا ووشمه كما يصف بعض المتحمسين من النقاد إلى هذا الجنس الأدبي، وما يحدث من إنتاج متزايد لها يعكس، في ظني، نقصاً في وجودها من جهة، ويتفاعل مع تحولات بنيوية يعرفها العالم العربي وتحتاج إلى وسائط تعبير متعددة من بينها الرواية من جهة ثانية.
عاش العالم فترات طويلة من دون «رواية». هي حديثة العهد نسبياً. أمّا الشعر فوُجد مُذ وُجدت البشرية. وإن كان غير الشعر الذي نعرفه اليوم، إلاّ أنّ روح الشعر كانت منذ القدم ولا تاريخ مُحدّد لولادتها.
التغيّرات التي طرأت على الحياة الإنسانية انعكست على الأدب وساهمت في توالد الأجناس الأدبية الواحد تلو الآخر: الشعر ثمّ المسرح ثم الرواية... خلال الفترة الأخيرة دخل العالم زمن الرواية.
فصارت هي الوجهة التي يقصدها الكتّاب والقرّاء ودور النشر على حدّ سواء. وفي عالمنا العربي اتخذّت الرواية خلال السنوات الأخيرة انتشاراً رهيباً حتى بات لا يختلف اثنان على أنّ الرواية هي النقطة الأكثر جذباً بين كلّ الأنواع الأخرى.
أخذت الرواية بالتوسّع داخل الساحة الثقافية إلى حدّ السيطرة والإلغاء. والشعراء أنفسهم بدأوا يزحفون همساً صوب الرواية.
الشعر والقصّة القصيرة والأنواع الأدبية الأخرى أصبحت جميعها في كفّة والرواية وحدها في كفّة أخرى. تفوّق الرواية صار أمراً ملحوظاً.
ولكن هل ثمّة إحصاءات رسمية واستفتاءات تُكرّس هذا التفوّق؟ وهل الحديث عن غلبة الرواية إلى هذا الحدّ حقيقة أم مغالاة؟ ما هي مغريات الرواية؟ هل تعتمد دور النشر في إصداراتها على الرواية في شكل كبير استجابة لطلب القرّاء وسوق المبيع؟ لماذا يتجّه أهمّ الشعراء نحوها وينكبون على كتابتها بعدما صنعوا أسماءهم بالشعر؟ هل رواجها اليوم يُعدّ موضة أدبية لا بدّ أن تنحسر مع الأيام القادمة أم أنّها انعطاف جديد سيأخذ الأدب إلى مكان مختلف؟ عن هذه الأسئلة التي لا تنتهي في مسألة تفوّق الرواية وسرّ جاذبيتها اليوم يُجيب عدد من المسؤولين عن أهمّ دور النشر اللبنانية والعربية والمختصّين أيضاً في هذا المجال.
الأستاذ فادي تميم رئيس النادي الثقافي العربي
نحن هي الجهة المنظّمة لمعرض الكتاب العربي والدولي في بيروت، ومنذ أشهر قليلة أُقيم معرض الكتاب في بيروت والإحصاءات أكدّت مرّة أخرى أنّ الرواية هي أكثر الأنواع الأدبية مبيعاً.
والرواية القصيرة التي تقع في 150 صفحة تقريباً هي تحديداً الأكثر جذباً للناس.
ولكن بالمقارنة بين أنواع الكتب عامّة، وليس الأدبية فقط، تأتي الرواية بالمركز الثاني بعد الكتب السياسية. أمّا عن سرّ جاذبية الرواية فهذا الأمر مُتعلّق بمزاج الناس. وربما يكون السبب كامن في قدرة الرواية على نقل الواقع الذي يعيشونه بأسلوب فني لا يخلو من التشويق.
والإحصاءات الأخيرة التي أقمناها أشارت إلى أنّ الروايات التي جاءت في المراتب الأولى من حيث المبيع كانت: رواية «سينالكول» للكاتب المخضرم الياس خوري بالتساوي مع رواية «علي الأميركاني» للكاتبة الشابة هالة كوثراني، رواية «ألف» لباولو كويلو و«ألبوم الخسارة» للشاعر والكاتب عبّاس بيضون.