قضية 'معنفة المفك' مجدداً في الواجهة
عنف ضدّ المرأة, حبس / سجن, المرأة السعودية / نساء سعوديات, عنف أسري, حقوق المرأة السعودية, الضرب, المحكمة الابتدائية في الرباط.
30 يناير 2012اختلف كثيراً شكل السيدة التي رأيناها ترقد في المستشفى الشهر الماضي بملامح غير واضحة ومشوّهة، عن شكلها الحالي بعد تماثلها للشفاء. لكن ما لم يتغير هو الدموع التي مازالت تسيطر على عينيها والشعور بالظلم الذي مازال يتملكها ويتضح في نبرات صوتها. وفي إجابة عن السؤال: لماذا تنازلت؟ قالت: «تنازلت من أجل أطفالي، فلو استطعت أن أعيش من غيرهم لفعلت، فهل تستطيع أم أن تترك صغارها؟ فبعد محاولات إصلاح من خلال لجنة إصلاح ذات البين التي قالت لي إن طريق المحاكم طويل وسيسبب لي الكثير من المتاعب ونتائجه غير مضمونة لأن الزوج قد يخرج من السجن ويعود ويطالب ببناته، فقررت التنازل وحصلت على الطلاق وحضانة البنات ومبلغ 100 ألف ريال»، مؤكدة أنها لم تتنازل إلا عن حقها الخاص، وأنها استغربت طلبها رفع الحق العام عن الزوج في «وثيقة الصلح» النهائية التي نفت أن تكون قد وقعتها بشكلها النهائي.
كان خيار التنازل هو المتاح بالنسبة لها خاصة بعد اختفاء وكيلها الشرعي الذي تطوع بمتابعة قضيتها، وعدم رده على اتصالاتها في ما بعد، فلم تكن تعرف إلا ما قاله لها أعضاء لجنة إصلاح ذات البين وما نصحها به أهلها من ضرورة التنازل للمصلحة العامة، وبالتالي لم تقدم ما لديها من مستندات سابقة تثبت تعرّضها للضرب أكثر من مرة. ونفت عن نفسها أي تهم يكون قد برر بها الزوج اعتداءه عليها، متمسكة بكل ما قالته في روايتها الأولى.
وتمنت أن تحصل على منزل تعيش فيه مع بناتها وعمل شريف يمكّنها من العيش بكرامة وإعالة نفسها. وناشدت أمير منطقة مكة المكرمة قائلة: «أتمنى أن أقابل الأمير خالد الفيصل، فلدي الكثير الذي لا أريد أن أتحدث عنه في الإعلام لأني مازلت أعاني من ظلم».
وتضمنت «وثيقة الصلح» التي تحتفظ «لها» بنسخة منها عدة بنود لإنهاء القضية منها تنازل الزوجين عن الدعوى المرفوعة من كليهما، وطلاق الزوجة بعد الإنجاب، وإن راجعها زوجها في فترة العدة يمكنها فسخ العقد في ما بعد بمبلغ لا يزيد عن 1000 ريال. وحفظت الوثيقة للزوجة أيضاً حق حضانة الأطفال مع زيارتهم لوالدهم في نهاية كل أسبوع، إضافة إلى حصولها على مبلغ 100,000 ريال، كما تضمنت مطالبة الزوجة برفع الحق العام عن زوجها لسترها وستر بناتها مع اعتبار القضية منقضية ورفع الحق العام.
لماذا سقط الحق العام؟
لا تعتبر قضية «معنفة المفك» الأولى التي يتم التنازل فيها عن الحق الخاص ومن ثم يسقط الحق العام. فكثيراً ما نسمع عن قصص كثيرة تتنازل فيها الزوجة عن حقها الخاص، ثم يتم الإفراج عن الزوج دون تطبيق الحق العام. ولقد كثرت التساؤلات أخيراً عن سقوط الحق العام. فلماذا يتم الإفراج عن المُعنف بعد تنازل المعنفة عن حقها الخاص؟ ألا يفترض أن يحفظ الحق العام للدولة وتوقيع العقوبة على المُعنف؟ هذه الأسئلة وغيرها أوضحها المحامي والمستشار القانوني حاليا وعضو هيئة التحقيق والادعاء سابقاً الدكتور إبراهيم الآبادي. ولقد عرف الآبادي أن العنف الجسدي أي الضرب المؤدي إلى إصابات بالغة يعتبر اعتداء على النفس ومن الجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف إذا تجاوزت مدة الشفاء منه أكثر من 15 يوماً وفقاً للقرار الوزاري 1900 بتاريخ 9/7/1428 الذي نظم الجرائم، وبناءً عليه لا يجوز الإفراج عن الجاني إلا بعد انتهاء محكوميته، وإن تنازل صاحب الحق الخاص عن حقه يبقى الحق العام الخاص بالمجتمع. وعرف الآبادي الحق العام بأنه حق المجتمع في كل فعل يصدر من الأشخاص ويضر بهذا المجتمع، فكل فعل فيه معصية أو مخالفة للنظام يكون للمجتمع حق في معاقبة المتسبب، «فالحق العام هو حق المجتمع في من تعدى على حرماته وارتكب فعلاً يعاقب عليه النظام أو الشرع».
وعن الحالات التي يمكن فيها سقوط الحق العام، أوضح الآبادي أن المادة 23 من نظام الإجراءات الجزائية الصادرة بالمرسوم الملكي رقم (م/39) وتاريخ 28/7/1422 تنص على أن تنقضي الدعوى الجزائية الخاصة في حالة صدور حكم نهائي في القضية أو عفو المجني عليه أو وارثه، ولا يمنع عفو المجني عليه أو وارثه من الاستمرار في دعوى الحق العام، مبيناً أن المادة 62 من نظام الإجراءات الجزائية تعطي صلاحية للمحقق أن يوصي بحفظ القضية. وأكد أن القضية لا تحفظ إلا بعد موافقة رئيس الدائرة بوقف الاستمرار في القضية وهو ما يسمى بـ«الحفظ الدائم» وللمحقق أن يوصي بحفظ الأوراق في الأحوال التالية: «إذا لم تصح نسبة الوقائع إلى المتهم، أو إذا وُجد مانع مسؤولية، أو عذر يُعفي من العقاب. وإذا انقضت الدعوى الجزائيـة العامة أو الخاصة في إحدى الأحوال المذكورة في المادتين 22 و23 من هذا النظام. إذا كان الضرر الناتج عن الجريمة طفيفاً.
و إذا كانت الملاحقة القضائية تولد مفسدة تفوق بضررها ما يُمكن أن تحققه من نتائج، وكان هذا الضرر أشد من ضرر الجريمة. وإذا كان من شأن السير في الدعوى استفحال الخطر ، أو زيادة العداوة والخصومات. وإذا كانت الدعوى مقامة من جهة حكومية على أحد منسوبيها ورأت أن لا مصلحة في ملاحقته جنائياً. وإذا كان الفعل الجرمي ناتجاً عن إهمال الأبوين أو الأبناء، ولم يتأذ أحد غير أفراد الأسرة. و وقوع تجاوز يمكن تسويغه في مباشرة حق الولاية أو التعليم أو واجبات الوظيفة. التخالص في الجرائم المالية في غير جرائم الحدود . وسحب المضرور دعواه التي لا تُحرَّك الدعوى العامة فيها إلا بناء على شكواه. هنا يُطلق سراح المتهم الموقوف إذا استكمل قرار الحفظ شكله النظامي، ما لم يكن موقوفاً لسبب آخر. وقف السير في الدعوى، وحفظ الأوراق لا يمنعان إعادة التحقيق في القضية لأسباب يذكرها المحقق في المحضر».
وهناك ما يعرف بـ«الحفظ الموقت» للقضية استنادا الى المادة 124 من نظام الإجراءات الجزائية وهي إذا رأى المحقق بعد انتهاء التحقيق أن الأدلة غير كافية لإقامة الدعوى، فيوصي المحقق رئيس الدائرة بحفظ الدعوى وبالإفراج عن المتهم الموقوف، إلا إذا كان موقوفاً لسبب آخر . ويعد أمر رئيس الدائرة بتأييد ذلك نافذاً ، إلا في الجرائم الكبيرة فلا يكون الأمر نافذاً إلا بمصادقة رئيس هيئة التحقيق والادعاء العام، أو من ينيبه. ويجب أن يشتمل الأمر على الأسباب التي بني عليها، ويبلغ الأمر للمدعي بالحق الخاص، وإذا كان قد توفي فيكون التبليغ لورثته جملة في محل إقامته.
وأفاد الآبادي أنه يمكن للمحقق حفظ الدعوى في حالة تنازل المجني عليه عن حقه الخاص وإذا رأى المحقق مصلحة في ذلك. وقال: «لدينا قاعدة فقهية تقول: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن رأى المحقق مصلحة عائلية أو عامة في تطبيق الحق العام ومحاكمة الشخص يستمر في إقامة الدعوى، أما إن رأى أن الأمان العائلي سيتحقق بعدم المحاكمة فيمكنه أن يرفع الحق العام. إذا هي مسألة تقديرية تعود للمحقق بناء على الأنظمة والقواعد الشرعية». ولكن لإسقاط الحق العام قواعد محددة كأن يكون الفعل الذي قام به الشخص «مأذونا له فيه»، مثل أن يضرب الأب ابنه من منطلق التأديب دون أن يخرج على قواعده أو يضرب الزوج زوجته وفق التأديب الشرعي الذي تحكمه قواعد بأن لا يكسر عظماً ولا يشق جلداً وفي حالات محدودة جداً، هنا لا تقام الدعوى العامة. «فالفعل لو كان مسموحا به وفي إطار القواعد وغير متجاوز، لا تقام الدعوى العامة»، مؤكداً أنه في حال تكرار الفعل واعتياد الجاني على الفعل هنا لا يجوز للمحقق أن يحفظ القضية في هذه الحالة.
الباحوث: الإعلام تناول القضية بغير موضوعية والزوج دفع المال إكراماً لبناته
وللوقوف على وجهة النظر الزوج أكد المستشار عبدالله بن سعد الباحوث، عضو هيئة التحقيق والإدعاء العام سابقا ووكيل الزوج، لـ «لها» أن القضية انتهت بما جاء في «وثيقة الصلح» من تنازل الزوجة عن حقها الخاص مقابل 100 ألف ريال وحضانة الأطفال، وتنازل الزوج عن الدعوى سبب الخلاف والعنف الذي وقع على الزوجة، مؤكداً عدم رغبة الزوج في الإفصاح عن تفاصيلها والتطرق إليها.
وأشار الباحوث إلى أن لجنة إصلاح ذات البين هي من حررت «وثيقة الصلح» بعدما نظرت في القضية ورأت أن الصلح هو الحل الأفضل لإنهاء الأمر من أجل مصلحة الأطفال والستر عليهم، وبموافقة الزوجة تم إنهاء القضية. وأوضح أن الزوجة هي من طلب من القاضي رفع الحق العام عن زوجها من أجل الأطفال، فقدمت المصلحة العامة وهي مصلحة الأطفال على المصلحة الشخصية سواء كانت للزوجة أو الزوج، وقررت المحكمة ما فيه مصلحة الأطفال المستقبلية.
وشدد الباحوث على أن الزوجة لم تتطرق في حديثها مع لجنة إصلاح ذات البين إلى موضوع المسكر أو أن الزوج سبق وضربها أكثر من مرة، وقال: «ملف القضية لا يوجد فيه أي إثبات يقول إن الرجل هذا كان معاقرا للمسكر، أو أي إثبات يقول إنه اعتدى عليها بالضرب سابقاً، فلا يوجد أي إثباتات على هذه الإدعاءات. فالمحكمة لم تنظر في أي دعاوى خلاف ما جاء في لائحة الدعوى العامة التي وجهت الاتهام إلى الزوج بالاعتداء على زوجته بالضرب بأداة والتسبب في إصابتها. فقضاؤنا عادل ولن يترك أموراً كهذه لو وجدت».
ولم تفصل جهة التحقيق أوراقاً لدعاوى الزوجة بأنه يتناول المسكرات أو أنه سبق أن ضربها، كما قال الباحوث، لكنها فصلت أوراقاً لدعوى الزوج الذي فسر فيها سبب الضرب. وقال: «لقد انتهت هذه القضية بالصلح وإسقاط الحق العام عن الزوج لوجود طفلتين رجحت مصلحتهما على مصلحة الوالدين. فلو بقي الزوج على دعواه وقدم إثباتاته وأثبتت الدعوى على الزوجة، وبقيت هي على دعواها بأنه يتعاطى المسكر ويعتدي عليها وحكمت المحكمة بالعقوبة عليه، فالضحية هنا هي الأطفال».
ولام الباحوث الإعلام الذي لم يتعامل مع القضية بحيادية وموضوعية مرجحاً الرواية من طرف واحد دون أن تسمع وجهة نظر الزوج أو حتى النظر في ملفه وتاريخه، مؤكداً أن سجله مليء بشهادات الشكر والتقدير من أكبر شخصيات البلد العسكرية والمدنية. « فالرجل لم يفصل من عمله، كما ادعى الإعلام على لسان الزوجة، بل تقاعد بشكل رسمي ونظامي وبشهادات تقدير، ويبلغ من العمر الحقيقي 57 عاماً وليس 70 أو 60 عاماً كما نشر في الإعلام، ولم يثبت عليه أي قضية جنائية ، وصحيفته الجنائية خالية تماماً من أي قضايا مسيئة». ودفع الزوج لزوجته 100 ألف ريال كنوع من الترضية لبناته، وما لحق لوالدتهم من أذى، وهذا معروف عند لجنة إصلاح ذات البين.
«أريده أن ينال العقاب الذي يستحقّه، ولن أتنازل هذه المرة، فكلّما تنازلت انتهى بي الأمر مصابة، وقد أفقد حياتي يوما ما». بهذه الكلمات أنهت من عرفت «بمعنفة المفك» حديثها مع «لها» الذي نشر في العدد 589 في 4 كانون الثاني- يناير 2012، بعد تعرّضها لضرب مبرح على يد زوجها بآلة حادة سببت لها إصابات جسدية ونفسية تلقت على إثرها العلاج لثلاثة أسابيع. تماثلت للشفاء الجسدي وخرجت من المستشفى وهي حامل في شهرها الثالث وكانت مصرّة على المضي في قضيتها والحصول على حقها، كما قالت، رغم محاولات الصلح والمفاوضات. ولكن ما هي إلا أسابيع قليلة حتى تنازلت عن القضية وعقدت صلحاً مع الزوج مقابل حق الطلاق والحضانة ومبلغ من المال.
أثارت القضية الكثير من الجدل الاجتماعي قبل التنازل وبعده بين متعاطف معها ومشكك في روايتها. فالبعض يرى ضرورة إغلاق هذا الملف لمصلحة الأطفال، وآخرون يرون ضرورة الاستمرار فيها ليكون الحكم رادعاً لمن يمارس العنف، وآخرون يرون أنه قد يكون للزوج أسبابه ومبرراته لهذا الضرب. فلماذا تنازلت عن الحق الخاص في القضية؟ هل مورس عليها أي نوع من الضغط؟ ماذا يقول الزوج؟ وهل أقام دعوى عليها تبرر الضرب؟ وإن تنازلت المُعَنفة عن حقها الخاص، لماذا سقط الحق العام، مع تكرار الاعتداء، على حسب قولها، والمستندات التي قدمتها لـ«لها»؟ الكثير من الأسئلة التي أثارتها القضية حاولنا الإجابة عنها من خلال هذا التحقيق.