برلين: واحة خضراء وتكنولوجيات مستدامة
لطالما حلمت بزيارة برلين، عاصمة ألمانيا ومركزها الثقافي وإحدى أهم المدن السياحية في أوروبا. إنها مدينة المعالم الأثرية الرائعة، والمتاحف والمسارح والمقاهي الأنيقة، وهي بالتالي مدينة لكل الناس مهما اختلفت أذواقهم وطباعهم. لذلك، وافقت فوراً على الدعوة التي تلقيتها من المجلس الوطني الألماني للسياحة (GNTB)، الذي نظّم رحلة إلى برلين لصحافيين من مختلف أنحاء العالم لإطلاعهم على حملة "فيل غود" Feel Good الهادفة إلى تشجيع المسافرين على استكشاف الثقافة الألمانية ووجهاتها المستدامة والمميزة، وتسليط الضوء على المبادرات البيئية في ألمانيا، وتزويد السيّاح بالمعلومات والأدوات اللازمة لخفض بصمتهم الكربونية عند زيارة المناطق السياحية. حزمتُ أمتعتي وانطلقت من بيروت في مغامرة جديدة عنوانها السياحة المستدامة في مدينة تضمّ مجموعة من الوجهات الصديقة للبيئة، بما فيها مطاعم الأطباق النباتية والفعاليات المميزة ضمن المساحة الحضرية للمدينة.
توفر ألمانيا أفضل عروض السياحة المستدامة في أوروبا، بدءاً من المناظر الطبيعية الخلاّبة والأطباق الأصيلة الشهية وصولاً إلى المعالم الحضرية والمواقع التراثية التي تشتهر بها الدولة. وتقدّم حملة "فيل غود" Feel Good السياحية للمسافرين مجموعةً من النصائح والإرشادات لتسليط الضوء على المبادرات البيئية في ألمانيا، وتزويد السيّاح بالمعلومات والأدوات اللازمة لخفض بصمتهم الكربونية عند زيارة المناطق السياحية، وتشجعيهم على احتضان الطبيعة الألمانية من خلال مجموعة نشاطات في الطبيعة والهواء الطلق.
واللافت أن السيّاح عموماً، ولا سيما القادمين من دول مجلس التعاون الخليجي، يُبدون اهتماماً أكبر بالجوانب البيئية والممارسات المستدامة عند التخطيط لرحلاتهم، ولذلك تقدّم حملة "فيل غود" Feel Good للمسافرين الإرشادات والنصائح اللازمة لاختبار رحلات مستدامة في ألمانيا، إضافةً إلى تقليص بصمتهم البيئية وحساب كمية الانبعاثات الكربونية التي يتسبّبون بها باستخدام أداتنا الخاصة لحساب الانبعاثات، مما يضمن في النهاية تجربةً حيادية التأثير في المناخ ومستدامة قدر الإمكان.
الاقتصاد الدائري
وصلت إلى مطار برلين وانتقلت فوراً إلى فندق Lulu Guldsmeden لملاقاة زملائي الصحافيين القادمين من مختلف أصقاع الأرض. هناك، رحّبت بنا الجميلة ليزا، مندوبة المجلس الوطني الألماني للسياحة، والمرشد السياحي توماس، اللذان رافقانا طوال أيام الرحلة الخمسة وكانا خير مجيبين على كل أسئلتنا واستفساراتنا.
بعد استراحة قصيرة في الفندق، انطلقنا في أول مغامرة، وكان عنوانها "الاقتصاد الدائري"، وهو نموذج اقتصادي يستهدف تقليل المُهدر من المواد والسلع والطاقة والاستفادة منها قدر الإمكان، بحيث يتم خفض الاستهلاك والنفايات والانبعاثات، وذلك من طريق تبسيط العمليات وسلاسل الإمداد.
كما يساهم الاقتصاد الدائري في تعظيم الاستفادة من كل المواد الخام والمعادن والطاقة والموارد بمختلف صورها، فضلاً عن إطلاق عمليات إعادة التدوير والاستخدام وإعادة التصنيع والتطوير، بدلاً من نمط الهدر وإلقاء النفايات. وهو يخلق فرصاً اقتصادية واستثمارية أفضل للشركات والمؤسسات، الى جانب المزايا البيئية والاجتماعية.
وتسعى مدينة برلين، مع عدد من المدن الألمانية الأخرى، إلى اعتماد مفهوم الاقتصاد الدائري الذي يوفر بدائل جديدة للحدّ من تغير المناخ وبناء مجتمعات أكثر مرونةً وشمولية. ويرتكز ذلك على استعمال التكنولوجيا الخضراء ومنع نشوء التلوث من المصدر، وتبنّي الطاقات المتجددة مثل طواحين الهواء والخلايا الشمسية.
وخلال جولتنا على B-Part Am Gleisdreieck، اطلعنا على كيفية اعتماد الهندسة الدائرية، ومختبرات التصميم المستقبلي، والأبنية المؤقتة، والمجتمعات التجريبية. تجدر الإشارة إلى أن تطبيق مفهوم الاقتصاد الدائري يعني بلوغ صفر نفايات أو مواد غير قابلة للاستعمال مرة جديدة، من خلال ابتكار طرق جديدة للاستفادة من كل المكونات وإعادة تصميمها بأساليب مفيدة.
الموضة الخضراء
في اليوم التالي، تعرّفنا على مفهوم الموضة الخضراء أو Green Fashion، أي الموضة المستدامة والصديقة للبيئة بحيث زرنا محطات عدة تهدف كلها إلى إعادة استخدام الملابس بطرق مبتكرة، مما يحدّ كثيراً من شراء ملابس جديدة ورمي الملابس القديمة في سِلال النفايات.
برلين هي عاصمة الأزياء المستدامة، ولذلك تزدهر فيها المؤسّسات التي تتخذ من الموضة الخضراء عنواناً لها. وقد زرنا خلال جولتنا متجراً لتأجير الملابس بدل بيعها، بحيث يستطيع الزبون استئجار أربع قطع ملابس دفعة واحدة مقابل رسم اشتراك شهري، ومن ثم إعادتها متى يشاء لاستئجار أربع قطع أخرى. من شأن هذا المفهوم مساعدة الناس على التقليل من شراء الملابس الجديدة، والتخفيف بالتالي من كمية الملابس التي يتم رميها بسبب الملل منها أو انتفاء الحاجة إليها. كما زرنا مركزاً يستقبل الملابس المستعملة التي يهبها بعض الأشخاص، بحيث يتم فرزها ووهب قسم منها للمشرّدين والفقراء، وإعادة بيع جزء منها لاستخدامه في تصميم ملابس جديدة.
ثمة محطة لافتة أيضاً تمثلت في متجر يبتكر الملابس ويصنعها من شراشف وستائر وأغطية، علماً أن التصاميم فريدة واستثنائية ولا توجد نسخة ثانية من أية قطعة. بعد انتهاء الجولة، ذهلتُ بالاحتمالات العديدة المتوافرة للتخفيف من نفايات الأقمشة والألبسة.
حدائق العالم "غارتن دير فيلت"
لا يمكن زيارة برلين من دون رؤية حدائق العالم "غارتن دير فيلت" التي تعتبر من أشهر الحدائق في العاصمة الألمانية وأكثرها استقطاباً للسيّاح. تم افتتاحها عام 1987 ويتم تحديثها وتوسيعها باستمرار، وهي من أجمل المناطق الريفية في شرق برلين حيث يمكن الزوّار الغوص في عوالم الحدائق اليابانية والصينية أو في أجواء الحدائق الشرقية وفي ثقافات الحدائق لمناطق مختلفة من العالم، التي تم استيراد المواد والنباتات منها وتصميم المباني على طرازها.
بدأنا بجولة استطلاعية لاستكشاف أجزاء الحديقة كافة، ومتّعنا نظرنا بالمشاهد الطبيعية الرائعة كالأشجار المورقة، والمساحات الخضراء الشاسعة، والبرك المائية العديدة. واللافت أن هذه الحدائق توفر العديد من الأماكن للجلوس، بحيث يمكن الاستراحة عليها في حال الشعور بالتعب. تشتمل هذه الحدائق على حديقة صينية هي أكبر حديقة صينية في ألمانيا بمساحة 2.7 هكتار، وأول مساحة تم تطويرها في الحديقة. صمّم الحديقة مهندسو المناظر الطبيعية الصينية وتم استيراد كل المواد من الصين. هناك أيضاً الحديقة اليابانية التي تحتوي على القيقب الياباني والأعشاب اليابانية المزهرة والخزامى اليابانية، والحديقة الشرقية المصمّمة لتشبه هياكل الشرق الأوسط والعالم العربي، مع البلاط المتقن والنوافير المظلّلة والأتريوم المظلّل بحيث توفر مساحة تبريد في حرارة الصيف، وحديقة بالي المشيّدة تحت منزل زجاجي لتوليد الأجواء الاستوائية الرطبة، مع قسم من المساكن التقليدية البالية. أما الحديقة الكورية فهي هدية من مدينة سيول الكورية وفيها 4000 متر مربع من الأفنية والأشكال والنباتات. حديقة النهضة الإيطالية تركز على الأشجار والتماثيل الفخمة، مع الكثير من النباتات المزروعة في أوعية التراكوتا. وحديقة كارل فوستر هي حديقة النباتات المزهرة على مدار العام تتبع أفكار Karl Foerster، وهو من منتجي الشجيرات وفيلسوف الحديقة من Potsdam-Bornim في أوائل القرن العشرين.
اكتشاف برلين على الدرّاجة الهوائية
الاستدامة هي العنوان العريض لرحلتنا إلى برلين، ولذلك اعتمدنا وسائل النقل العام مثل المترو والباصات للانتقال من مكان إلى آخر بدل ركوب سيارات الأجرة. وكان لا بدّ من اكتشاف برلين على الدرّاجات الهوائية، لا سيما أن لهذه الدرّاجات مساراتها الخاصة والواسعة بعيداً من طريق السيارات، مما يجعل من السهل على الدرّاجين المبتدئين التجوّل. وقع اختيارنا على درّاجات هوائية كهربائية e-blike وانطلقنا من الفندق في جولة استمرت قرابة الساعتين، اكتشفنا خلالها المنطقة القديمة التاريخية في وسط برلين، ومعرض "إيست سايد"، و"تيرغارتن" والعديد من الجواهر الخفية في برلين. كما زرنا الكثير من الحدائق العامّة، والمزراع والبحيرات، وقمنا بجولة على متنزّه مطار تمبلهوف.
صحيح أن شبكة النقل العام في برلين واسعة النطاق وسهلة الاستخدام، لكن اكتشاف برلين على الدرّاجة الهوائية له طعم آخر، إذ يتيح لك رؤية المعالم عن كثب واستنشاق الهواء وسط الطبيعة الجميلة، وهو أمر لا يتوافر مع القطارات التي تمر عبر أنفاق مظلمة ولا تتيح لركابها رؤية الكثير من معالم المدينة.
أودّ الإشارة إلى أن الدرّاجة الهوائية الكهربائية شبيهة تماماً بالدرّاجة الهوائية، ويمكن استئجارها لساعات أو أيام في برلين، لاستكشاف ما أمكن من تلك المدينة الرائعة.
جولة في القارب
تضمّن برنامج رحلتنا إلى برلين جولة في قارب صديق للبيئة Solar Catamaran، وتملّكتني الدهشة حين عرفت أن العاصمة الألمانية تقع ضمن منطقة غنية بممراتها المائية وتملك جسوراً أكثر مما تملكه مدينة البندقية. فعند تقسيم المدينة قبل عقود، تحوّل العدد الأكبر من أنهار برلين وبحيراتها وأقنيتها إلى مناطق حدودية غير مستخدمة أو مناطق صناعية شبه منسية. ولكن مع مرور السنين، امتزجت بالمدينة وتحولت من مناطق مهمّشة إلى شبكة من الابتكارات والإمكانات.
جولتنا في القارب أتاحت لنا التعرّف على معالم برلين السياحية وعمارتها الهندسية المذهلة، واكتشفنا زوايا نادرة في برلين، بدءاً من معرض "إيست سايد"، مروراً بوسط برلين التاريخي، وبرج التلفزيون، وقاعة المدينة الحمراء، وكاتدرائية برلين، ومبنى الرايخستاغ، وصولاً إلى العديد من نقاط الجذب الأخرى في المدينة. امتدّت الرحلة لساعتين تقريباً ضمن مسار مائي هادئ، وحصل كل منا على سمّاعات للأذنين أتاحت لنا الاستماع بالإنكليزية إلى شرح مفصّل عن كل معلم تاريخي كنا نمرّ أمامه.
مطار تمبلهوف
في يومنا الثالث في برلين، زرنا مطار تمبلهوف الذي يعتبر من أقدم مطارات ألمانيا، ويعود إلى بداية عشرينيات القرن الماضي، وتحوّل إلى قاعدة عسكرية أميركية بعد الحرب العالمية الثانية ثم إلى مطار مدني، إلى أن تم إغلاقه في 30 تشرين الأول/أكتوبر من عام 2008.
تم افتتاح هذا المطار أساساً في 8 أكتوبر 1923، وبلغت مساحته 386 هكتاراً، وسعته السنوية 1.5 مليون راكب، علماً أنه يبعد 4 كيلومترات عن برلين. جرى اعتماد تمبلهوف كمطار من جانب وزارة النقل في الرايخ في 8 أكتوبر 1923. وتم تشييد المحطة القديمة في الأصل عام 1927. وتحسّباً لزيادة الحركة الجوية، بدأت الحكومة النازية عملية إعادة بناء هائلة في منتصف الثلاثينيات. أصبح تمبلهوف أحد المطارات الأوروبية الثلاثة الشهيرة قبل الحرب العالمية الثانية، وكان بمثابة شريان حياة لبرلين الغربية إبّان الحصار السوفياتي، إذ زوّد حلفاء الحرب الباردة برلين الغربية بالمؤن والإمدادات عبر جسر جوّي. وأصبح تمبلهوف رمزاً للحرية لبرلين الغربية التي طوّقتها ألمانيا الشرقية الشيوعية.
أوقف مطار تمبلهوف كل العمليات في 30 أكتوبر 2008، وتم استخدامه بعد ذلك لاستضافة العديد من المعارض، والفعاليات، والمهرجانات الموسيقية، والأحداث الرياضية... أما الحقول المحيطة بالمطار فكان مقرراً إبقاؤها كمتنزّه إلى أجل غير مسمّى. لكن في العام 2014، تقرّر تشييد أبنية في تلك الحقول، ولكنّ سكان برلين رفضوا هذا الأمر وفق نتائج استفتاء شعبي وتم الإبقاء على الحقول كمتنزّه عام. واليوم، يأتي الناس إلى تلك الحقول للاستمتاع بمساحاتها المفتوحة الواسعة، والاستجمام، وركوب الدرّاجات، والتزلج، ولعب البيسبول والطائرات الورقية...
أما الخطط المستقبلية فتتحدث عن إقامة متحف برلين الجوي في مبنى الركاب القديم، ومساحة تجارية للأعمال المبتكرة، ومناطق سكنية وصناعية جديدة، ومنشآت رياضية...
بوابة براندنبورغ
في يومنا الرابع في برلين، قررت وزملائي في الرحلة زيارة بوابة براندنبورغ أو بوابة برلينهي التي تُعدّ من أهم الأماكن السياحية في برلين، إذ تدلّ على روح التاريخ الألماني ويظهر عليها العديد من طوابع البريد والعملات الألمانية. وقد أُطلق عليها هذا الاسم نسبةً إلى ولاية براندنبورغ التابعة لها. تم بناء بوابة براندنبورغ في القرن الثامن عشر عام 1788 لتكتمل بصورة نهائية عام 1791. تقع البوابة في برلين في ساحة باريسر، في نهاية أونتر دين ليندن، وهو شارع كبير للتنزّه والمشي في وسط برلين.
عند زيارة هذا المعلَم السياحي، يمكنك استكشاف البوابة ورؤية النقوش الموجودة عليها، إضافة إلى تمثال الخيول والعربة. كما يمكنك الجلوس في الحدائق الخضراء الموجودة حول البوابة والتمتع بالهواء الطلق، وتناول الأطعمة الخفيفة المنتشرة على جوانب الحدائق. ولا بدّ طبعاً من التقاط بعض الصور داخل بوابة براندنبورغ وبين الأعمدة أو في الساحة المقابلة عند نافورة الماء. يُذكر أنه منذ سقوط جدار برلين عام 1989 أصبحت بوابة براندنبورغ ترمز إلى الوحدة الألمانية، وهي من أروع الأمثلة الكلاسيكية الألمانية.
جدار برلين
إنه أحد أهم أماكن السياحة في برلين بالنسبة إلى هواة معرفة التاريخ الحديث. بدأ تاريخ جدار برلين في العام 1961 عندما أغلقت ألمانيا الشرقية الجزء الشرقي من المدينة لوقف تدفق اللاجئين من الشرق إلى الغرب. وحتى تاريخ انهيار الجدار في العام 1989، امتدّ الجدار، البالغ ارتفاعه أربعة أمتار، لمسافة 155 كيلومتراً، مع الإشارة إلى أن الجدار اشتمل على 293 برج مراقبة و 57 مخبأ. يُعدّ جدار برلين من أكبر الشواهد على الحرب الباردة وقت انهيار الاتحاد السوفياتي، وقد هُدم الجدار لتتوحّد برلين الشرقية والغربية. اليوم، لا تزال هناك مساحات صغيرة من الأجزاء المغطّاة بالكتابة على الجدران، بما في ذلك امتداد يبلغ طوله 1.4 كيلومتر كجزء من النصب التذكاري لجدار برلين، وهو تذكير مؤلم بالعداوة التي قسمت أوروبا.
إلى اللقاء
غادرت برلين بعد قضاء خمسة أيام في ربوعها استكشفت خلالها العديد من الجوانب الثقافية والتاريخية، واطّلعت على مفهوم الاستدامة الذي تسعى المدينة الألمانية إلى اعتماده في جوانب عدة. لا شك في أن برلين وجهة حيوية توفر عدداً لا يحصى من المغامرات والاستكشافات، وتلبي تطلعات السيّاح العرب المهتمين بالجوانب البيئية والممارسات المستدامة. غادرت برلين مع كمّ هائل من اللحظات الجميلة والذكريات التي لا تُنسى، على أمل العودة إليها في أقرب فرصة ممكنة لأكتشف ما فاتني منها هذه المرة...{
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1077 | آب 2024