دية الشهيد هل تجوز بديلاً عن القصاص؟
د. محمد رأفت عثمان, الشيخ يوسف البدري, د. أحمد عمر هاشم, د. سعاد صالح, فتوى, أسامة العبد, د. عبد الفتاح الشيخ, العقاب, شهيد / شهداء, الثورة المصرية, دية الشهيد
16 أغسطس 2011فتوى شاملة
من جهته، طالب عضو مجمع البحوث الإسلامية والعميد الأسبق لكلية الشريعة والقانون في جامعة الأزهر الدكتور محمد رأفت عثمان، المؤسسات الدينية المتخصصة في الفتوى في مصر وغيرها من الدول العربية التي شهدت ثورات، بأن «تدرس القضية من مختلف جوانبها وتسارع الى إصدار فتاوى شاملة عنها من مختلف جوانبها، خاصة أن القضية لها أكثر من جانب، مع التأكيد أن أولياء الدم هم أصحاب الحق الوحيد والأصيل في العفو أو قبول الديَّة أو التمسك بالقصاص.
وهذا المبدأ يجب تطبيقه فى الحالات العادية التي يكون القتل فيها بطريق الخطأ وبين أفراد معلومين. أما في قضية شهداء ثورة يناير فإن الوضع مختلف، ذلك أن القتل تم بالرصاص الحي وفي أماكن بعينها في الجسد لتؤدي إلى الموت فوراً، مما يؤكد التعمد ويستوجب القصاص شرعاً والقتل بالطريقة نفسها التي قُتل بها المتظاهرون».
عقوبة وليست تعويضاً
أما الرئيس الأسبق لجامعة الأزهر الدكتور أحمد عمر هاشم فيؤكد أن الديَّة من العقوبات المالية التي فرضتها الشريعة لردع الجناة، وهي تؤول للمجني عليه أو ورثته وليست تعويضاً كما يفهم البعض، حتى وإن وجدت بعض أوجه للتشابه بينها وبين التعويض، باعتبارها مالاً يدفعه الجاني للمجني عليه أو لورثته، سواء كانت جريمة القتل عمداً أو خطأ.
وأوضح أن التشريع الجنائي الإسلامي لا يقتصر على عقوبات الحدود والقصاص، كما يظن الكثيرون، وإنما يشمل عقوبات مالية أشهرها الديَّة. وإذا كان القصاص حقاً للمجني عليه أو ولي الدم، فإن الإسلام شرع الديَّة في المقابل كعقوبة بديلة للقصاص أو معه، باعتبارها عقوبة أصلية في حالتي القتل والجرح شبه العمد أو الخطأ.
أنواع الديَّة
ويعرِّف عضو مجمع البحوث الإسلامية الدكتور محمد المختار المهدي الديَّة بأنها «المال الواجب للتعويض عن القتل أو إيذاء في النفس، وقد أجمع أهل العلم على وجوبها على اختلاف أصنافها ذهبًا وفضةً وبقرًا وإبلاً، حسب البيئة التي تمت فيها الجريمة. ويمكن اللجوء إليها لإزالة أسباب الاحتقان، خاصة وقت الثورات مثلما هو الحال في مصر واليمن وتونس وسورية، والأفضل الأخذ بقيمة أقل أصناف الديَّة لما في ذلك من تشجيع الناس على دفعها».
وعن الأصل الشرعي للدية في الإسلام قال المهدي: «ورد فيها نص قرآني صريح، حيث يقول الله سبحانه وتعالى: «ومَا كَان لِمُؤمنٍ أنْ يَقتُلَ مُؤْمِنًا إلا خَطَأً ومن قتل مُؤمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبةٍ مُؤْمِنَةٍ وديَّةٌ مُسلَّمةٌ إلَى أَهْلِهِ إلاَّ أنْ يَصَّدَّقُوا...» الآية 92 سورة النساء. على العكس من القتل العمد الذي قال عنه الله سبحانه وتعالى: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً» الآية 93 سورة النساء.
وقول النبي، صلى الله عليه وسلم، في خطبة فتح مكة: «من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يؤدي وإما أن يقاد». وتؤكد السنة القولية والفعلية المروية عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وجوب الديَّة ومقدارها، ومنها ما كتبه إلى أهل اليمن في القتل والديَّات ومقاديرها، ولهذا لم يختلف الفقهاء في أن الديَّة عقوبة يتم توقيعها على شخص ارتكب جريمة قتل خطأ.
فرض الديَّة بالقانون
عن حق ولي الأمر، أياً كان في فرض الديَّة كتشريع للمصلحة العامة، قال الأمين العام للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الدكتور محمد الشحات الجندي: «من حق الحاكم استشارة علماء الإسلام في إمكان فرض تطبيق الديَّة عن طريق سن تشريعات تتضمنها، استناداً إلى ما ورد بشأنها في الفقه الإسلامي.
ومن يتأمل الحكمة من تشريع الديَّة سيجد أنها تهدف إلى تجنيب الأمة الإسلامية الانتقام، لأن فيها ترضية للمجني عليه وأهله، مما يقلل الألم والغيظ في النفوس، مثلما هو الحال في حالات الاحتقان بين الشرطة وأسر الشهداء في مصر وغيرها من دول الثورات العربية.
وهناك من الفقهاء من يرى أنه لا يحق لرئيس الدولة أو من يمثله أن يسن أي تشريع يعفي القاتل عمداً من العقاب، وإذا فعل ذلك أو حاول تطبيقه بالإجبار فهو بذلك مخالف للشرع، بل إنه سيكون نوعاً من إهدار دم الأبرياء والتستر على القتلة والسفاحين، أو التهاون في التعامل معهم بما يخالف الشرع على أقل تقدير».
حل شرعي
بدأت حالة الجدل حول تلك القضية باجتهاد للدكتور أسامة العبد رداً على سؤال حول جواز قبول أسر الشهداء للدية بدلاً من القصاص كحل لتخفيف الاحتقان داخل المجتمع، فقال: «قبول أهالي شهداء ثورة «25 يناير» الديَّة مقابل التنازل عن القضايا التي يطالبون فيها بالقصاص من القتلة جائز شرعاً، لأن الديَّة أمر أجازته الشريعة الإسلامية لالتئام الجروح. كما أن قبولها لا مانع منه، خاصة أننا في مرحلة ما بعد ثورة مباركة تستوجب التسامح، واللجوء إلى الديَّة كحل شرعي للتخفيف عن القضاء من جانب، واستفادة أسر الشهداء من جانب آخر».
دية المرأة
وعن دية المرأة التي أفتي البعض بأنها نصف ديَّة الرجل، قالت العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر الدكتورة سعاد صالح: «الديَّة متساوية لأن حرمة الدم في الإسلام متساوية، ولا فرق فيها بين الرجال والنساء. واجتهد الفقهاء المعاصرون وقدَّروا قيمة الديَّة بما يعادل 4250 غراماً ذهباً، وعلى ذلك فإن الديَّة في الإسلام ثابتة القيمة، وتسدد على أقساط على مدار ثلاث سنوات، بحيث يسدد الثلث الأخير في نهاية العام الثالث، وذلك استناداً لحكم الفاروق عمر بن الخطاب، ولم يخالفه الصحابة في ذلك.
ويمكن تطبيق قاعدة «دفع المفسدة مقدم على جلب المنفعة» وقاعدة «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب». وإذا كانت الديَّة كجزاء شرعت أصلاً لتطبيق قاعدة «لا يهدر دم في الإسلام»، فإنها متساوية بصرف النظر عن جنس الضحية، لأن حرمة الدم في الإسلام متساوية ولا فرق فيها بين الرجال والنساء. وإذا تقرر أخذ الديَّة فإنها توزع على الورثة حسب أنصبتهم، ولدائني القتيل استيفاء ديونهم من الديَّة المحكوم بها للورثة لأنها تعتبر تركة لمورثهم».
رغبة أولياء الدم
أما عضو مجمع البحوث الإسلامية الشيخ يوسف البدري فيؤكد أنه لا يمكن تجاهل الرغبة الشخصية لأولياء الدم إذا قرروا التعامل بالديَّة بشكل منفرد لكل حالة على حدة، وليس كحكم عام لكل الحالات، إذا رأت أسرة شهيد مصلحتها في ذلك تبعاً لظروفها الاجتماعية.
ويقول: «في الوقت نفسه نحذر من فتاوى قد تصدر من مسؤولي المؤسسات الدينية الرسمية، بتبرير قتل الأبرياء طالما أنه سيتم في النهاية دفع ديَّة ثمناً لهذا الدم، وكأن الديَّة هي الحل الشرعي البسيط للقتلة وهذا بالطبع غير مقبول، ومن ثم يكون الحديث عن الديَّة في مثل تلك الحالة لا معنى له، لأن القتل الذي مورس ضد الأبرياء أثناء الثورات الشعبية كان مع سبق الإصرار والتعمد، وليس قتلاً خطأً تجوز فيه الديَّة، وإنما يدخل في نطاق الإفساد في الأرض الذي يستوجب حد الحرابة المنصوص عليه شرعاً في القرآن الكريم بنص صريح لا يقبل التأويل، وهو قوله تعالى:
«إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ » الآية 33 سورة المائدة».
ترضية وتصالح
وقال الرئيس الأسبق لجامعة الأزهر الدكتور عبد الفتاح الشيخ: «تعد العقوبات في الشريعة الإسلامية، ومنها الديَّة، وسيلة فعالة لإزالة أسباب الاحتقان وتقليل التوتر بين أفراد المجتمع، مما يساهم في المحافظة على قوة العلاقات الاجتماعية خاصة أن الديَّة فيها ما يشبه «الترضية» المعنوية قبل المادية بعد الاعتراف بالخطأ. كما أن وجود الديَّة كعقوبة يعَّد ردعاً لكل من تسول له نفسه الاعتداء على الآخرين، ومن ثم فإن الديَّة تعد وقاية وحماية للمجتمع، وفيها مراعاة للحالات الإنسانية والدوافع المؤدية إلى هذه الجرائم غير المتعمدة».
واضاف: «من المعروف أن استبعاد الديَّة يؤدي إلى العنف، ولهذا فإن الشريعة الإسلامية بتطبيقها نظام الديَّة تؤدي إلى التكافل الاجتماعي، إذ يشارك فيها كل المحيطين بالجاني من أفراد أسرته مما يثمر مزيداً من الترابط بين أفراد المجتمع أيضاً.
كذلك فإن تطبيق الديَّة يقلل كثيراً من الضغوط على المحاكم، لهذا من حق ولي الأمر أو القاضي بعد استطلاع آراء علماء الدين سن تشريعات بجعل الديَّة هي الأساس في التقاضي، وبالتالي يتم إلزام أسر الضحايا بها. ومن المعروف أن الديَّة كانت موجودة قبل الإسلام عند العرب باعتبارهم مجتمعاً قبلياً لا تحكمه قوانين، وكانت الجرائم تختلف في عقوباتها من قبيلة إلى أخرى، ولهذا تم الاتجاه إلى الصلح بمقابل من أجل تحقيق السلام وإزالة الاحتقان».
أثارت فتوى لرئيس جامعة الأزهر الدكتور أسامة العبد بجواز حصول أهالي شهداء الثورة المصرية الذين قتلوا عمداً على الديَّة بدلاً من القصاص وذلك حقناً للدماء، وإزالةً للاحتقان الاجتماعي، جدلا فقهيا بحيث انقسم علماء الدين فريقين، أولهما يرفض ذلك مؤكداً أن القصاص هو العقاب الشرعي الوحيد لمن قتلوا الشهداء عمداً، تطبيقاً لحد الحرابة عليهم، في حين يرى الفريق الآخر جواز الديَّة شرعاً إذا تمت برضاء أهالي الشهداء.