مدرسة 'النور' الرسمية من ظلمة الحرب إلى ظلمة الإهمال

حربي العامري, المدرسة, الحرب الأهلية اللبنانية, ليلى طرابلسي

04 فبراير 2013

خلال الحرب الأهلية اللبنانيّة كانت مدرسة «النور»، في مدينة الميناء شمال لبنان، مقرًا حزبيًا سقفه وجدرانه اهترأت من ضجيج المدافع وأزيز الرصاص وأسرار الميليشيات. انتهت الحرب فجاء القرار عام 1994 بتحويل المقرّ الذي هو عبارة عن غرف صغيرة مشتّتة الأوصال إلى مدرسة لأطفال حي المساكن الشعبية الفقراء. وهكذا تحوّلت الجدران والأسقف إلى حاضنة للكتاب والقلم وأطفال يكتبون بأناملهم الصغيرة مستقبلهم يرسمونه بألوان الأمل مسلّحين بنور العلم وليس بظلمة البارود. مدرسة «النور» نموذج لكثير من المدارس الرسمية في لبنان لا سيّما في مدن وبلدات وقرى محافظة لبنان الشمالي التي تعاني إهمالاً مزمنًا من الدولة، وكأن الفقراء لا يستحقون أن يعيشوا في محيط مدرسي صحّي يشعرهم بالتفاؤل بالغد. ولكن رغم غياب الدولة، هناك هيئات المجتمع المدني التي تأخذ على عاتقها مباردة رفع الحرمان عن المناطق الفقيرة. وتحسين ظروف المدرسة الرسميّة وإعادة ترميمها أحد المشاريع التي تقوم بها بعض الجمعيات الأهلية في لبنان، لا سيما في مدينة طرابلس

مدرسة النور إحدى المدارس التي اختارتها السيّدة رولى المراد رئيسة جمعية «آفاق الخيرية الاجتماعية» ومركز «أديوكير» الذي يهتم بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة لا سيّما الذين يعانون التوحّد، لإعادة ترميمها وتأهليها حتى تكون مدرسة يستحقها أطفال حي المساكن الشعبية في مدينة الميناء.
«لها» التقت السيّدة رولى المراد التي أخذت على عاتقها مشروع ترميم مدرسة «النور» بالتعاون مع جمعية «فرصتي» وبفضل بعض ممولي المنطقة


- كيف انطلقت فكرة إعادة ترميم المدارس في المناطق الأكثر فقرًا في شمال لبنان، لا سيّما مدينة الميناء؟

لدي صديقة تهتم كثيرًا بالمسائل المتعلّقة بالطفولة، اجتمعنا وكنا نتكلم عن ازدياد الفقر في كل المناطق. خرجنا بفكرة لمَ لا نركّز على المدارس الرسمية، وننظر في احتياجاتها وماذا في استطاعتنا تقديمه. فعندما تضعين التلامذة الصغار في بيئة مدرسية سليمة تتوافر فيها سبل الراحة النفسية والصحية، من الطبيعي أن يتحسن أداؤهم. فهل من الطبيعي وجود مدارس إلى اليوم مبانيها مهترئة حيث يعيش التلميذ وسط الرطوبة وروائح العفن والأمطار التي تنهمر في الصف؟
أسست صديقتي جمعية «فرصتي» لتعمل على مشروع ترميم المدارس الرسمية وإعادة تأهليها، وسألتني ما إذا كنت أريد المساهمة. واجتمعت مع مسؤولين في وزارة التربية للسماح لنا، أي جمعيتي «آفاق» وجمعيتها «فرصتي»، بالدخول إلى هذه المدارس ومباشرة ترميمها. ونحن كجمعية «آفاق» أخذنا على عاتقنا ترميم مدراس الشمال.

- لماذا اخترت مدرسة «النور»؟
قررنا أن نبدأ بمدرسة في طرابلس وأخرى في عكار، بحثت في مدينة الميناء لأنني أعرف أن حي المساكن الشعبية أكثر الأحياء بؤسًا على الصعيد الإجتماعي، فمشاريع التنمية معدومة. لذا اخترت المدرسة الأكثر إهمالاً.  تستقبل مدرسة «النور» هذه 100 تلميذ ولا توجد فيها أدنى مقوّمات المدرسة. تخيّلي مدرسة هي عبارة عن صفوف تغلّفها الرطوبة وروائح العفن، وهي مدرسة للأطفال ولا يوجد ملعب لهم، أما الحمّامات فأقرب ما يكون إلى زريبة للحيوانات. تخيّلي المياه التي يشربها الأطفال تخرج من خزان مليء بالجراثيم والأوساخ وهي متصلة بمياه مجارير الحمامات، أما الملعب فحدّث و لا حرج، إذا أراد الصغار الذهاب إلى الحمّامات خلال الأمطار ليس هناك رواق أو سقف يحميهم من وابله. فلا عجب أن يكون أطفال المدرسة مرضى طوال العام، فهم لا يرتدون ملابس تقيهم البرد والمطر بسبب فقرهم.

- من هم أفراد فريق العمل؟
هناك بعض الحرفيين تقاضوا أجرًا، وهذا طبيعي، فيما تطوّع الكثير من الشبان والشبات من جامعات ومن كل المناطق والفئات وقدموا خدماتهم مجانًا، فرسموا على جدران المدرسة رسومًا تشعر الأطفال بالفرح وتعزز أحلامهم. أثناء الترميم كان أطفال الحي يأتون ونسمع عبارات «نريد المجيء إلى المدرسة، متى تنتهي الأعمال؟». وصاروا توّاقين للعودة إلى المدرسة لأنهم أصبحوا فخورين بها.

- كيف كان رد فعل الكادر التعليمي للمدرسة والتلامذة وأهل الحي؟
التلامذة والمعلمّات كانوا سعداء جدًا، فأنت تحترمين وجودهم وإنسانيتهم. المعلمات صرن يشعرن بالحماسة ولديهن دافع كبير للعطاء، فقد قدمنا لهن وللتلامذة محيطًا صحيًا إلى حد ما. تخيلي أن تطلبي من طفل ارتياد مدرسة مبناها لا يحترم طفولته وإنسانيته. أما أهل الحي وخلال أعمال الترميم فلم يصدقوا ما يحدث وكانوا يسألوننا ما إذا كنا في حاجة إلى مساعدة، وكنا نسمع عبارات «الله يعطيكم العافية، الله يجزيكم الخير...» وكانت تحفزنا على العمل بفرح. ومع بداية العام المدرسي نظمنا حفلة لأطفال المنطقة في المدرسة تضمنت ألعاباً ومهرجاً لنؤكد لهم أننا معهم، كما وزّعنا حقائب مدرسية لكل تلامذة الحي.

- ماذا عن المدرسة التي اخترتموها في عكّار؟
بالنسبة إلى عكار اخترنا مدرسة وتم التمويل من أهل المنطقة، ولكن للأسف تراجع المموّلون عن الأمر لأنهم على خلاف مع البلدية، وكان من المفترض التعاون مع البلدية وإن بأمور بسيطة. للأسف دفع حساب الخلاف تلامذة المنطقة.

- بحكم تجربتك في العمل الميداني للمجتمع الأهلي، ما هي الصعاب التي تواجهونها كجمعيات خيرية؟
هناك جمعيات خيرية كثيرة تعاني صعابًا رغم أنها فاعلة على الأرض، إذ ليس من المنطقي أن تتحول التمويلات سواء كانت عينية أو أموال إلى الجمعيات التي ترأسها زوجات نواب ووزراء، أو مسؤولون في الدولة. فمن المفروض أن يوزع أي تمويل يأتي إلى الوزارت المختصة على الجمعيات المنتجة والتي لها تاريخ في الإنتاج. وزارة الشؤون الإجتماعية دورها أن تدعم الجمعيات المدنية.


التلامذة

- التقينا تلامذة من مدرسة «النور»، وسألناهم كيف وجدوا مدرستهم؟
 نور: أصبحت مدرستي جميلة جدًا، وأتمنى أن يصبح بيتي مثلها.
 فرح: أحب اللعب بـ «الزحلوقة» الموجودة في وسط الملعب.
 جاد: أفضّل أن أبقى في المدرسة لأنني أستطيع اللعب بحرية.
 رأي إقبال سبلبل وندى بركة. معلّمتان: «هناك فرق كبير. المدرسة صارت جميلة ونظيفة. كل شيء جميل. التلامذة سعداء. ونحن صرنا نعطي بشكل أفضل. تخيّلي أنك تعلّمين في شروط بائسة، المطر يتسرّب أثناء الحصة، ونخاف على التلامذة من الذهاب مثلا إلى الحمام بسبب الأمطار أو خوفًا من لفحة برد. تخيّلي أنه لم يكن يوجد باب يغلق... الطفل مسؤوليتنا، وإذا لم يكن هناك باب مقفل قد يخرج من دون أن نشعر. في الصف أكثر من 40 تلميذًا. اليوم صارت مدرسة روضة أطفال بالفعل».
محمد الأيوبي مدير المدرسة: حاولنا كثيرًا تحسين المدرسة

- هل صحيح أن مبنى مرحلتي الروضة والإبتدائية كان مقرًا لميليشيات حزبية؟
صحيح، هذا المبنى كان مقرًا حزبيًا. إختلفت الأحزاب في ما بينها وسلّموه إلى البلدية التي ارتأت أن تجعله مدرسة. في البداية كانت عبارة عن غرفتين ومنتفعاتها. رفعت تقريرًا إلى وزارة التربية وقلت إن المدرسة لا تتوافر فيها شروط السلامة، ومن الضروري تجهيزها. فأرسلت البلدية مهندسًا تمنّع في البداية لأنه رأى أن المبنى يستحيل أن يتحوّل إلى مدرسة للأطفال. ثم عاد ورمم المبنى ضمن إمكانات البلدية وبما يضمن سلامة الأطفال في حدودها الدنيا.

- ماذا عن مبنى المرحلة المتوسّطة؟ لمَ لم يحصل الترميم؟
كما ترين هذا المبنى كان عبارة عن مجموعة غرف، هي في الأصل مساكن كان يقطنها بعض أهالي الحي، ثم تم دمجها لتصبح مدرسة. للأسف حاولنا ترميمها، لكن لم نجد ممولاً. وهذه الغرف تسع 260 تلميذاً واليوم فيها 310 تلامذة من المساكن الشعبية وحي التنك وهما من أفقر الأحياء في المدينة. ورغم ذلك فالعدد مؤشر جيد لأن أهالي الحي يريدون تعليم أبنائهم ولكن الدولة لا تحفّزهم. اليوم أعمل على المطالبة ببناء سور في الأرض الملاصقة لإنشاء صفين إضافيين، بدل أن تكون مكبًا للنفايات وبالتالي أجعل التلامذة يشعرون بالراحة أكثر، ولم ألق آذانًا صاغية إلى اليوم.


حكاية غريبة من حي التنك

في إحدى المرّات التقى مدير مدرسة «النور» سيدة ولامها على تغيّب أطفالها عن الصف، فشرعت في البكاء، فالسبب كما قالت: «أسكن في حي التنك ولديّ غرفتا تنك والأرضية تراب. هطلت الأمطار وتسرب الماء على الأرض وصارت وحلاً وتبلل الفرش على الأرض اضطررت لأن أجعل أطفالي ينامون في الخزانة...».