زواج الأقارب ما زال يحدث في السعودية ... والأمراض الوراثية ثمن يدفعه الأطفال؟

زواج الأقارب,السعودية,الزواج,الأمراض الوراثية

ميس حمّاد (جدة) 07 ديسمبر 2014

الزواج هو خطوة شرعية وطبيعية، يقدم عليها الناس لإتمام نصف دينهم، وتأسيس العائلة سواء كان تتويجًا لعلاقة حب أو بطريقة تقليدية. كان سائداً  في السابق أن يتزوج ابن العم بابنة العم، أو يتزوج الشاب من فتاة في قريته، أو من قبيلته، انطلاقاً من مبدأ «القريب أولى من الغريب». حتى أننا نجد أن هناك الكثيرات من الفتيات اللواتي يُفرض عليهن الارتباط بأزواج من الأقارب تأكيداً لهذا المبدأ. وعلى الرغم من الانفتاح والتوعية، والتحذير من قبل الجهات الصحية عن زواج الأقارب وما له من انعكاسات سلبية، نجد أن هناك الكثير من الزيجات التي تتم بهذه الطريقة، وإن كانت بنسبة أقل من السابق. «لها» تستعرض في هذا التحقيق شهادات حيّة لبعض المتزوّجين، آخذة برأي أصحاب الاختصاص في هذا الأمر .

رائد: رغم معارضة العائلتين تزوجت ابنة خالتي وأدعو الله أن يرزقنا مولوداً بصحة جيدة

المهندس رائد وزوجته أشجان، تربطهما قرابة أبناء الخالة. متزوجان منذ ما يقارب الخمس سنوات، قد تختلف قصتهما عن الآخرين، فهما ارتبطا عاطفيا لسنتين قبل الزواج. يقول رائد: «لطالما تميزت زوجتي عن بنات العائلة، في نظري، بل أؤكد أنها مختلفة أيضاً عن بنات جنسها. وعندما كنت آراها في المناسبات العائلية والأعياد كان يزداد تعلّقي بها، وكنت أشعر بأنها تبادلني الشعور، فعقدنا العزم على الزواج رغم معارضة الأهل، ووضع العراقيل للحيلولة دون ارتباطنا، وعلى الرغم من ذلك  تمكنا من الزواج».

ويضيف: «رغم مرور خمس سنوات على زواجنا، إلا أن المولى لم يشأ أن يرزقنا مولوداً بعد، لكننا مؤمنان بالله وبمشيئته، وأن طفلنا الذي سيأتي سيكون بمعزل عن الإصابة بأي مرض، بإذن الله».

ومن جهتها علّقت أشجان قائلة: «أتمنى من كل قلبي أن أُرزق طفلاً من زوجي رائد، وأن يكون متمتعاً بصحة جيدة. وأنا مؤمنة بما كتبه الله ليّ وآمل خيراً». 

أم محمد: أبنائي أصحاء وأنا سعيدة بالزواج من ابن عمتي

السيدة خديجة أم محمد، أرملة، وكانت متزوجة من ابن عمتها سالم منذ ما يقارب 30 عاماً، ولهما خمسة أولاد. تقول إن أولادها أصحاء «أنا سعيدة بعائلتي، أبنائي الشباب يشبهون والدهم كثيراً، وبناتي يشبهنني. لم تكن مشاكلنا في الزواج بسبب الخوف من المرض الوراثي، فقد كانت مشاكلنا اجتماعية وزوجية».

العسيري: لست نادماً على زواجي بابنة عمي، لكن وجع ابنتي يؤلمني كثيراً ولا أملك سوى الدعاء لها

ابن العم الطبيب علي العسيري وزوجته إيمان متزوجان منذ أكثر من 25 عاماً، ولهما ثلاث بنات وولدان. يقول علي: «جرت العادة أن ابن العم أولى بابنة عمه، ليحافظ على نسل العائلة، ومنذ الصغر أصر والدانا أنّ ابنة عمي إيمان لي، اعترضت في البدء لكنني بعدها قبلت بالأمر، وجاريت الموضوع واقتنعت به، ولم أكن أعرف أن أحد أطفالي سيكون مصابـًا بمرضِ ما سببه زواج الأقارب».

بيان ابنة علي وإيمان مُصابة بمرض النزف الوراثي (ثلاسيميا) وهي تخضع للحقن بشكل متكرر كي لا تتفاقم حالتها الصحية، بحسب ما ذكرته والدتها إيمان التي تضيف: «أنا من عائلة محافظة وكان القرار الأخير لوالدي بوجوب تزويجي من ابن عمي. وقديمـًا لم تكن حالات الأمراض الوراثية معروفة وفحوص الدم قبل الزواج لم تكن كافية وشاملة، ولم أعلم ما سيصيب ابنتي من ألم وأذى، فلا يمكن أن تشفى بيان نهائيًا، وما يستطيع الطب تقديمه هو نقل الدم إليها بشكل دوري.  لست نادمة على زواجي فلدي عائلة رائعة،  ولكن ألم ابنتي يقتلني من داخلي، لذا نحاول تعويضها بتدليلها أكثر من إخوتها».

ويضيف العسيري: «أرى أنه من الحرام أن يُعرّض الأهل أولادهم لمشقة المرض إن كان بإمكانهم معرفة العواقب سلفـًا، فما أصعب أن ترى فلذة كبدك تتألم مرضًا، وبشكل متواصل، وأنت عاجز عن مساعدتها. ونصيحتي للمقبلين على الزواج أن يكونوا على مقدار كافٍ من الوعي والإدراك، قبل الإقدام على هذه الخطوة. أنا لست نادماً على زواجي بأم أبنائي، فهي سيدة رائعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأملك أسرة رائعة لن استبدلها بكنوز الدنيا، لكنني لا أطيق رؤية ابنتي بيان متألمة، وأسمع أنينها ووجعها، ولا استطيع مساعدتها سوى بالدعاء لها».

د. قاري: ومن الطبيعي أن يخفض فحص ما قبل الزواج نسب الزواج من الأقارب وبالتالي تنخفض الأمراض الوراثية

قال استشاري الأمراض الباطنية وأمراض الدم والأورام، ومدير مركز قاري الطبي لعلاج أمراض الدم والأورام الدكتور عبد الرحيم قاري، إن زواج الأقارب ينتشر في السعودية بتفاوت بين منطقة إلى أخرى، لنجد أنه يقلّ في المناطق الحضرية، ويزيد في المناطق القبليّة. لكن بوجه عام زواج الأقارب يحدث بنسبة 5 إلى 10 في المئة من الزيجات في السعودية، وتعد هذه نسبة كبيرة جداً مقارنة بالدول الغربية. أما المشاكل الصحية التي تنجم عن زواج الأقارب فنجد أنها ليست بالكثيرة، فإذا أخذنا 1000 زيجة من الأقارب، ستظهر المشاكل الصحية الناجمة عنها بنسبة لا تتجاوز 2 في المئة. ولكن وفي بعض الأحيان، هناك مشاكل معقدة وعلاجها صعب جداً، وفي أحيان أخرى يستحيل علاجها. لذلك نحن نُحذر من زواج الأقارب، كما أن الرسول صلى عليه وسلم  حذر منه بالقول (اغتربوا لا تضووا)، بمعنى لا تضعفوا».

وحول أكثر الأمراض الوراثية التي يسببها زواج الأقارب ذكر قاري أن أمراض الدم هي أكثر الأمراض الوراثية انتشاراً بسبب زواج الأقارب ومنها الأنيميا المنجلية، والثلاسيميا بنوعيها ألفا وبيتا، والأنيميا الفولية وهي نقص خميرة G6PD، وهذا المرض قد يصيب البنات إذا تزوج رجل مصاب بالمرض بإحدى قريباته الحاملة للمرض.

وأضاف: «هناك ما يسمى الصفة المتنحية، والصفة السائدة، ونجد أن مرض الأنيميا المنجلية ومرض الثلاسيميا من الصفات المتنحية، مما يعني أنه لظهور هذا المرض يجب أن يكون للأب وللأم جينات وراثية. وهناك أمراض سائدة فإن كان الجين الوراثي موجوداً عند أحد الأبوين نجد أنه في كثير من الأحيان يكون نصف الأطفال مصابين بالمرض».

 وحول فحص ما قبل الزواج ذكر قاري أنه ومن الطبيعي أن يخفض الفحص نسب الزواج من الأقارب وبالتالي تنخفض الأمراض الوراثية، موضحاً أن «فحص ما قبل الزواج للسعوديين لا يُلزم بإلغاء الزواج، إنما فقط هو للمشورة. أما إن كان أحد الطرفين فقط سعودياً، وتبيّن في الفحص أن هناك جيناً وراثياً فإن الحكومة تمتنع عن إعطاء التصريح بعقد النكاح».

وعن الدراسة الأميركية التي تقول إن 8 في المئة من المواليد في السعودية لديهم مرض وراثي، قال قاري: «هذه الدراسة قد لا تكون دقيقة، ذلك أن التليف الكيسي ليس منتشراً لدينا كما هو موجود في بلاد الغرب، أما ما يتعلق بالأنيميا المنجلية والثلاسيميا فهما بالتأكيد منتشران. أما الرقم المذكور في الدراسة فأجد أنه مبالغ فيه، لأن 8 في المئة تعادل 80 مولوداً بين كل 1000 مولود، وأنا أرى أن النسب قد لا تصل إلى الواحد في المئة».

نُصير: الإعاقات العقيلة أبرز الأمراض الوراثية التي تنجم عن زواج الأقارب في السعودية

من جانبها، قالت المستشارة الأسرية والتربوية والنفسية الدكتورة نادية نُصير إن الحراك الاجتماعي في النواحي العمرانية، والماديات الخارجية، أثرت بشكل كبير وأدت إلى خفض زواج الأقارب في المدن الرئيسية، لكنها ظاهرة ما زالت موجودة في المحافظات المختلفة. وأضافت: «من الصعب تغيير المعتقدات بين هؤلاء الأشخاص رغم التوعية بالأمراض الوراثية التي قد يتناقلها الجيل الثالث لهؤلاء المتزوجين. وهذا الأمر يُولد الكثير من المشاكل، من بينها الانفصال المُبكر، بسبب أن الفتاة قد تكون غُصبت على الارتباط بابن عمها، أو إبن خالها، أو أحد أقربائها. والكارثة الكبرى هي الزواج من الأقارب من الدرجة الأولى أي أن تجمع الآباء والأمهات قرابة وطيدة جداً، وفي هذه الحالات تكون نسبة الإصابة بالأمراض الوراثية والتخلفات العقلية عالية جداً».  وأكدت نُصير أهمية التوعية التي قد تأتي بالفائدة في تقليل زواج الأقارب «خاصة في القرى والمناطق النائية، لأن المدن الرئيسية فيها نسبة أقل» . وعن الأمراض المنتشرة بكثرة في المجتمع السعودي جراء زواج الأقارب قالت: «تأتي في المرتبة الأولى الإعاقات العقلية، أو ما يعرف بالتخلف العقلي، ومن ثم تأتي الأمراض العضوية الأخرى مثل مرض السكري، وأمراض الدم ومن بينها الأنيميا المنجلية والثلاسيميا».

د. العبد القادر: النصيحة بعدم الزواج تكون محصورة في أمراض الدم التي تسبب وفاة الأطفال

قال المدير التنفيذي لجمعية وئام في المنطقة الشرقية الدكتور محمد العبد القادر إن الجمعية تعمل على توعية الشباب والفتيات حول موضوع زواج الأقارب «مع التشديد على الجانب الصحي، وأًسس بناء الأسرة بشكل صحي وسليم. ونستضيف في دورات التوعية التي تُنظمها الجمعية جهات طبية متخصصة من وزارة الصحة، لتوعية الشباب والشابات وإسداء النُصح لهم، سواء عن الأمراض الوراثية، أو جوانب صحية عديدة تهم الزوجين، ومن ضمنها زواج الأقارب». ومع غياب الإحصاءات ذكر العبد القادر أن النسبة في ما يخص زواج الأقارب «تزيد وتنقص، وهناك نسبة كبيرة ممن لا يزالون يرغبون في زواج الأقارب، ومن أسباب انتشار هذا الزواج المدنية المعاصرة التي أثرت على التركيبة السكانية في المجتمع السعودي، فأصبح من في الشمال يأتي إلى الجنوب، ومن في الشرق يأتي إلى الغرب، وبالتالي فالإنسان قد لا يتعرف على جيرانه في الغربة، فيضطر للعودة إلى منشئه الأصلي وإلى عائلته بحثاً عن شريكة حياة تناسبه وتناسب العادات والتقاليد التي تربى عليها. ومن الأسباب الأخرى قلة ذات اليد وهي تدفع الإنسان إلى أن يتجنب التكاليف الباهظة، فالزواج من أجنبية (أي من خارج العائلة) مكلف فيما الأقارب في هذه الحالة يتحمّلون بعضهم البعض، فنجد أن ابنة العم قد تقبل بابن العم بدخله القليل نوعاً ما، وبالتالي تتم عملية الزواج بسهولة أكثر».  وحول مسألة الفحص ما قبل الزواج، أشار العبد القادر إلى «أن هناك إقبالاً كبيراً بنسبة تصل إلى 100 في المئة على هذا الفحص، لأن هناك إجراء نظامياً قامت به الدولة مشكورة، هو أن لا يتم عقد النكاح بين الطرفين إلا بإحضار ورقة الفحص».

د. النجيمي: زواج الأقارب يعتبر زواجاً مكروهاً إذا ثبت أن هناك عِللاً

عن المقصود بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (غربوا النكاح، لا تضووا)، قال رئيس قسم الدراسات المدنية في كلية الملك فهد الأمنية في الرياض، والأستاذ في المعهد العالي للقضاء
وعضو مجمع الفقه الإسلامي الدكتور محمد النجيمي إن هذا «القول ليس حديثاً عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، هو قول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، والمقصود فيه تزوجوا من الأباعد حتى لا يبعد نسلكم. وقد أثبت الطب الحديث أن زواج الأقارب ينقل الأمراض المتنحية، والتي قد تكون قد اختفت منذ سنوات. ولم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث صحيح في النهي عن زواج الأقارب».  ولفت إلى أن «الفقهاء القدامى، والمعاصرين يرون أن زواج الأقارب يعتبر زواجاً مكروهاً إذا ثبت أن هناك عللاً بين الأقارب، والمقصود بالعلل هي الأمراض الوراثية بينهما، لأنها حتماً ستنتقل.  وهناك توافق كلي بين الأطباء وآراء الفقهاء، والضوابط الفقهية التي تؤكد هذا الأمر وهي (ويُكّره زواج الأقارب، والأولى أن يتزوج امرأة ليست من الأقارب) ولم يُحرّم، وذلك لعدم توارث الأمراض وانتقالها إلى الأطفال. أما إن لم يكن لديهم أي مرض وراثي مشهور، أو معروف فمن باب الأولى أن لا يكون الزواج إلا للأقارب، وهنا هو ليس مكروهاً، وهناك من قال إن الإكراه في زواج الأقارب يعود حرصاً على عدم حصول تقاطع ونزاعات بين الأقارب والأهل في حال حدوث خلاف بين الزوج والزوجة».