90 عاماً على إطلاق عطر Chanel NO 5
عطور للنساء, شانيل, أزهار / زهور, كوكو شانيل, روائح الياسمين
21 ديسمبر 2011في حقول الياسمين، في غراس في جنوب فرنسا، تبدأ الحكاية. حكاية عطر أسطوري عرف نجاحاً استثنائياً كرّسه في المرتبة العالمية الأولى من دون منازع متحدياً السنين وتبدّل الموضة. في هذه الحقول، سرّ الخلطة الزهرية الرائعة التي جعلت من العطر أشبه بباقة أزهار نضرة لا تعرف الذبول. نساء منكبّات برفق على أشجار الياسمين المشذّبة، يقطفن بتأنٍ أزهارها البيضاء المتفتّحة، ويجمعنها في سلال تلفّها قطع من القماش المرطّب بالماء، ثم يغطينها بتأن أيضاً كمن يغطي طفلاً رضيعاً في مهده. الياسمينة زهرة دقيقة جداً وللحفاظ على عطرها، يجب ألا تؤذيها أشعة الشمس الحارقة. تمدّ يدك وتساعد في القطاف. فتلقى الإبتسامات المشجعة من هنا وهناك.
وتسأل عن أيّ جزء من الزهرة فيها الكنز العطري، كي لا تؤذيه عن غير قصد، لجهلك بتفاصيل عملية القطاف الدقيقة، فيجيبك فابريس بيانكي، وهو الجيل الخامس من عائلة مولMul مالكة هذه الحقول التي باتت دار شانيل شريكة أساسية فيها منذ عام 1987، وذلك بموجب عقد حصري تشتري بموجبه دار شانيل الإنتاج الكامل لهذه الحقول فيذهب لتصنيع عطر شانيل رقم 5 بهدف الحفاظ على تقليد صناعة هذا العطر من المواد الأولية الأساسية، يجيبك: «العطر نستخرجه بشكل أساسي من قلب الزهرة، كما من بتلاتها». ويروح يشرح لك بشغف كبير عن أسرار الياسمين، فيقول: «الياسمينة نبتة لا تحبّ البرد ولا الصقيع. لذا فإنّ المزارعين يلجأون الى طمر أسفل النبتات بالتراب جيداً قبل موسم الشتاء، لحمايتها ومساعدتها في مقاومة قسوة الصقيع. ثم يعمد المزارعون من جديد على إزالة التراب الطامر، لإظهار أعناق أشجار الياسمين، تمهيداً لحلول الربيع وبعده فصل الصيف، الفصل الذي تتفتّح فيه أزهار الياسمين، وتجود بعطاءاتها. ويستمرّ القطاف ثلاثة أشهر، بشكل يومي، يواظب فريق من السيدات القاطفات المتمرّسات للعمل في الحقول ثماني ساعات في اليوم».
بعد القطاف، تأتي عملية وزن الأزهار، وهي عملية تتكرّر مرتين في اليوم، تحمل خلالها النساء القاطفات المحاصيل الى مركز خاص للوزن. كلّ 8000 زهرة ياسمين، زنتها كيلو واحد. علماً ان المحصول السنوي للعام 2011 كان 16 طناً، مقابل ألف طن للعام 1930. وقد يكون هذا التراجع وراء اهتمام دار شانيل بتوقيع عقد حصري مع مالكي الأرض حفاظاً على جودة العطر وأصالة المواد الأولية المستخدمة لتصنيعه.
بعد عملية الوزن، يأتي دور استخلاص العطر التي تتم في مدينة غراس أيضاً، على مسافة مئات الأمتار من الحقول حيث يزرع الياسمين. ويذكر العطارون ان كلّ 350 كيلوغراماً من الزهور تنتج كيلوليتراً واحداً من مستخلص العطر. وعملية الإستخلاص تتم باستخدام وقود الهكسين الذي من شأنه أن يتبخّر تاركاً ترسّبات العطر كمستخلص معدّ للتصنيع.
أسرار أخرى عن هذا العطر
وكأن الآنسة كوكو شانيل اكتشفت بعطر Chanel No5 التركيبة الأنثوية المثلى لكلّ الأعمار وكلّ الأوقات. هي التي قالت للعطّار الأشهر أرنست بو الذي صمّم هذا العطر عام 1921، «أريد عطراً يشبه المرأة، لا عطراً يشبه وردة أو زهرة». وكان لها ما طلبت، فجاء شانيل رقم 5 عطراً أنثوياً فاخراً يشبه باقة زهرية مفعمة بالجاذبية الآسرة ويمثّل أوجه نسائية متعدّدة ومتعاكسة يلفّها بعض غموض. عطر يعشعش في الذاكرة من دون أن يكون ثقيل الحضور.
وقد اقترح أرنست بو على الآنسة كوكو مجموعة تركيبات أعجبتها منها التركيبة التي تحمل الرقم 5، والتي تتضمن المادة الأغلى والأنبل وهي ياسمين مدينة غراس الفرنسية، وورودها الجورية التي تتفتّح في شهر أيار Rose De Mai .
فقالت فليكن هذا، ولنبقِ على اسمه No5. اسم سهل للحفظ وعابر لكلّ الثقافات من دون ترجمة، وبسيط الى أبعد حدود البساطة. وجاءت القارورة ذات خطوط هندسية نقية بسيطة كاسم العطر الذي شكّل مفترقاً مهماً في عالم العطور النسائية. إذ كما يقول الخبراء والعطارون: هناك عطور ما قبل No5، وعطور ما بعده، وهي العطور التي تأثّرت بالأسلوب الذي فرضه هذا العطر الشهير، وسارت على خطاه.
وجاء الإصدار الجديد من ماء العطر Eau De Parfum Chanel No5 الذي عمل على تطويره العطار جاك بولج Jacques Polge كي يكتب فصلاً رائعاً من فصول التاريخ الباهر لهذا العطر الأسطوري. ترجمة حديثة للعبق الأساسي مع إضافة رائحة الفانيلا الطفولية.
توالت على تجسيد هذا العطر نجمات عديدات، لكنّ أيّاً منهنّ لم تسرق من العطر نجوميته. نذكر منهنّ: الآنسة كوكو نفسها، وكانديس برغن ولورين هاتون وآلي ماك غرو وكاثرين دونوف وكارول بوكيه ونيكول كيدمان وغيرهنّ. وأضاف فنانون عالميون، مصوّرون ومخرجون عدّة، شيئاً من إبداعهم الفنّي الى العطر بينهم باتريك دومارشولييه وريتشارد أفودون وفرنسوا كولار وجان بول غود وريدلي سكوت وباز لورمان ولوك بوسون وأندي وارهول.
مع مدير الأبحاث والتطوير في قسم العطور في شانيل كريستوفر شيلدريك: امرأة Chanel No 5 آسرة قوية الحضور!
بدأ الحوار مع العطار مدير الأبحاث والتطوير في قسم العطور لدى شانيل كريستوفر شيلدريك Christopher Sheldrake بإعلان حبّه للعطور الشرقية، خصوصاً العود الذي يستخدم في بلاد الخليج بوفرة. «أحبّ الأسلوب العربي في اختيار العود لتعطير المنزل والخزائن بطريقة حميمة جداً». وأبدى رغبته الشديدة في زيارة دول في الشرق الأوسط خصوصاً السعودية وعُمان.
ولد كريستوفر وترعرع في الهند، البلاد الأغنى بالعطور والروائح، وهو لا يزال يحتفظ في ذاكرته بروائح البهارات والعود والأزهار المختلفة التي كانت مربيته الهندية تصطحبه لشرائها من الأسواق الشعبية. ويقول ان الروائح لا تغادر أبداً ذاكرتنا، تنام حتى توقظها إشارة ما، فتستفيق، وتحرّك فينا مشاعر قديمة فيها الكثير من الصور. «فنحن إذ اجتمعنا اليوم في غراس لقطاف الياسمين، ستظلّ رائحة الياسمين أينما شممناه، تذكّرنا بهذا اللقاء. وكما توقظ رائحة الطعام جوعنا، تنذرنا رائحة الدخان بخطر حريق. الروائح منبّه حسّي أساسي، وهي ذاكرة اللحظة التي نعيشها».
ويقول كريستوفر انه يستوحي عطوره من لقاءات شخصية يقوم بها مع أشخاص رائعين، أو من زيارة أماكن جديدة، أو من مشاعر معيّنة يعيشها، أو من مقطوعات موسيقية يستمع إليها، خصوصاً انه عاشق لموسيقى موزار. ثم يبلور هذه الأفكار والمشاعر في مكتبه ضمن خطّة عمل لابتكار عطر جديد. «عندما توحي مادة أوّلية كالياسمين في شانيل رقم 5، ابتكار عطر معيّن، لا يعني ذلك أبداً ان العطر سيعبق بالياسمين، بل سيدور حولها، وستكون له بمثابة القلب النابض». ويروح يتحدّث عن ياسمين مدينة غراس الفرنسية فيقول ان «فيه حلاوة ما، تميّزه عن ياسمين شمال أفريقيا، وتغمره بالكثير من العاطفة».
وعن تركيبة عطر شانيل رقم 5، يقول كريستوفر:
«إنه عطر تجريدي يمثّل مشاعر أنثوية تفرض نفسها. وهو لا يشبه زهرة معيّنة، بل عبق امرأة حقيقية، بناء على رغبة الآنسة كوكو شانيل نفسها. وقد التزمت دار شانيل هذا الخط، فجاءت كلّ عطورها تجريدية أنثوية الى أبعد حدود، فيها عبق امرأة قويّة الحضور». ويقول ان سحر شانيل رقم 5 يكمن في أنوثته الصارخة وجاذبيته القوية، وكلاسيكيته العصرية أبداً القائمة على مواد أوّلية فاخرة ما زالت في أساس ابتكار العطور الأنثوية، تماماً كالأزياء التي تقدّمها الدار. إن للآنسة شانيل مفهوماً خاصاً بالأناقة يكمن في تبسيط حياة النساء الأنيقات وتوفير الراحة لهنّ. فجاكيت التويد التي تحمل توقيع شانيل يمكن ارتداؤها مع فستان سهرة أنيق، كما مع جينز. وهنا يكمن سرّ نجاح الدار على كلّ المستويات. «لقد كانت الآنسة كوكو امرأة متطلّبة جداً لجهة جودة تصاميمها وابتكاراتها وترفها المطلق ببساطة، لا بل انها غير صبورة في هذا المجال».
ويروح يتحدّث عن امرأة عطر شانيل رقم 5، فيقول انها سيدة أنيقة، رفيعة الذوق، قويّة الشخصية، آسرة الحضور، مميزة، لا يمكن أن تمرّ من دون أن تلحظها. «هذه الشخصية الآسرة والقوية التي يفرضها العطر، هي سرّ نجاحه المستمرّ منذ 90 عاماً من دون توقّف!».
ويستفيض كريستوفر في الحديث عن العطور، فيقول ان العطر تعبير شخصي عن مشاعرنا وما سنقوم به. والأشخاص الذين نلتقيهم، يحددون موقفاً معيناً منا بناء على العطر الذي نرتديه. «العطر هو، بطريقة أو بأخرى، امتداد لشخصنا».
كان كريستوفر يتحدّث بشاعرية الفنان المبدع المرهف، ويعطي أبعداً تجريدية لكلّ سؤال، فيجعل لهذا الحوار عبقاً خاصاً راسخاً في ذاكرتك، تماماً مثل عبق عطر Chanel No 5.
للإحتفال بتسعين عاماً على إطلاق عطر Chanel No5، لم تدعُنا دار شانيل Chanel الى مؤتمر صحافي في فندق باريسي فخم، ولا الى محاضرة حول تاريخ هذا العطر الكلاسيكي الفاخر، ولا الى شرح معمّق لمكوّناته الطبيعية الإستثنائية وخلطته العطرية السحرية، ولا الى عرض بالأرقام والبيانات للنجاح المنقطع النظير الذي عرفه، مذ قالت النجمة الأميركية الأشهر مارلين مونرو في إحدى مقابلاتها، رداً على سؤال حول ما ترتديه للنوم: «فقط بضع قطرات من عطر شانيل No5!». للإحتفال بتسعين عاماً على إطلاق No5، قال القيّمون على دار شانيل: تعالوا الى حقول بلدة غراس الفرنسية الشهيرة نقطف الياسمين لهذا العطر! دعوة مغرية ضمنها احتفالية جميلة، ومغامرة أجمل.