روما... المدينة العظيمة

إيطاليا, جبنة رومانو, بيتزا, الفن الباروكي, عصر النهضة, الولادة القيصرية, الإمبراطورية الرومانية

25 أكتوبر 2010

روما، هذه المدينة العظيمة التي لا يمكن أن تسقط سهوًا من سطور التاريخ المكتوب، لأنها عرفت كيف تحفر في متون صفحاته وحواشيها حضارات قديمة تراكمت فيها بكل بهاء، بعضها لم تستطع عوامل الجغرافيا رغم قسوتها أن تلتهمها وأخرى بقي منها أطلال تذكّر . فلا عجب أن يعشقها إمبراطورها الشاب نيرون عشقًا ساديًا حين راح يتأملها تحترق وهو يعزف القيثارة أثناء اصطيافه في بلدته أنتيوم، بحسب الروايات التاريخية.

روما اليوم مدينة عصرية حيث الفن وفن الحياة فيها وجهان لمدينة واحدة. هنا تحتشد المعالم التاريخية في كل زاوية وفي كل رواق وربما في أحشاء الأرض، لتبدو متحفاً يتجاور فيه فن الحياة والروائع الفنية بحرية تاركة العنان للمتجوّل يتنعّم بسحر أمجاد روما عاصمة العالم القديم من دون قيد وشرط، فتنهال أمام ناظريه كل أنماط الفن الذي حضنته هذه المدينة، ليجد نفسه وسط مصارعة رومانية صامتة وجميلة تتنافس فيها معالم روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية مع معالم روما العصر الوسيط وفنون روما عصر النهضة بكل أبهة، فيحار من أين يبدأ، فكل الدروب تؤدي إلى روما، وما عليه إلا أن يعيش معنى الدولتشي فيتا.

الفوروم الروماني وهضبة بالاتين
كان الفوروم أو الميدان الروماني مركز روما القديمة التجاري والسياسي والديني، وكانت تقام فيه التجمّعات الجماهيرية واجتماعات مجلس الأعيان «السينا».

استغرق تشييده 900 سنة، وبعد قيام الإمبراطورية الرومانية، بنى قياصرة روما معالم تعكس عظمتهم. رافق هذا الميدان انحدار العصر الروماني عند بداية القرن الرابع، لتسقط معابده ومعالمه تباعاً وتصبح أطلالاً حوّلتها عصور الظلام إلى مرعى للأبقار، ليأتي عصر النهضة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وينبش في أحشاء أرضه ليعيد إلى النور أمجاد حضارة اندثرت.
ويقود عبور فيا داي فوري إمبريالي إلى الكوليزيه الذي يعرف أيضاً باسم مسرح فلافيين. هنا الوقوف عند أحد مدرجّات المسرح يدخل الزائر في لعبة التاريخ الساكن فيه ويتخيّل جمهوراً محتشدًا يعلو هتافه كلما سقط مصارع روماني في أرض الحلبة، وقام آخر، وقيصر وحاشيته ينظرون إليهما بعيون باردة وهما ينزفان ثمن حريتهما. والخروج من المسرح وخيالاته يعني الانقياد إلى كواليس التاريخ، حيث قوس سبتيموس سفيروس معبد زحل، وقصر فيستال، ومعبد أنطونيو وفوستين وقوس تيتوس تنتظر دورها في تقديم عرض يسحر من يتجوّل بين أروقتها.
وفي ساحة نافونا يسكن سحر آخر حيث تتجاور قصور شيدت على نمط الفن الباروكي. تضم الساحة ثلاثة ينابيع تعكس إبداع فناني عصر النهضة يتوسّطها نبع الأنهر للفنان بيرنين ويضم أربعة مجسّمات تمثل نهر الغانج ونهر النيل ونهر الدانوب ونهر ريو دو لا بلاتا، تعلوها مسلّة مصرية. وتعتبر نافونا مكان تجمّع سكان روما وزوّارها حيث تفوح من مقاهي الرصيف التي تتحلّق حولها رائحة القهوة الإيطالية بكل أنواعها ممتزجة بروائح البيتزا والباستا.

ويثير في الزائر مشهد الرواد الذين انهمك بعضهم بارتشاف الكابوتشينو، وبعضهم الآخر بالتهام ما لذ وطاب من المطبخ، رغبة الجلوس في أحد المقاهي ليعيش تجربة إيطالية بكل حواسه. ينظر إلى لائحة الطعام الطويلة التي تتضمن معظمها أطباقًا أسماؤها أليفة بالنسبة إلى من يزور روما، مهما كانت جنسيته. فالمطاعم الإيطالية منتشرة في كل أنحاء العالم، إنها عولمة مطبخ الكرة الأرضية!
التجوال في أحضان روما متعة تختصرها قصر المسافات بين روائعها. من بياتزا دي اسبانيا، يمكن الزائر صعود سلم ترينيته ديه مونتيه الذي يعود تاريخه إلى العام 1725 فتقوده درجاته إلى كنيسة تحمل اسمه، ثم تدحرجه إلى فيا ديه كوندوتي فردوس الأناقة الإيطالية التي تعرضها واجهات البوتيكات بأسلوب يعكس شغف أهل روما بالجمال الذي قد يؤثر فيّ الزائر وينسيه أنه من المفروض ألا يتتبعه ويصرف نقوده.
في شارع رقم 86 يقع مقهى غريغو أقدم مقاهي هذا الشارع الذي نال شهرته بسبب الممثلين مارتشيللو ماستروياني وأنيتا أكبرغ في فيلم «لا دولتشي فيتا» الذي أخرجه فيدريكو فيللليني عام 1960. لا يمكن لمن يمرّ بالقرب من هذا المقهى إلا أن يعيش مغامرة إيطالية على الطريقة الهوليوودية،  فيجلس فيه ليرتشف القهوة ويستمتع بمشهد نبع تريفي والمياه تتدفق من التحف الفنية المنحوتة عليه، والناس من حوله يرمون بالنقود المعدنية، كي يرجعوا إلى هذه المدينة. فكأن الأساطير المحفورة في اللا وعي الإنساني الثقافي تنقض كل موازين منطق العقل وتجعل الواحد منا يتمنى صدقها كي تتحقق رغباته الدفينة.

في هضبة بالاتين مهد الأسطورة الرومانية تقف أطلال قصر نيرون، حيث وقف يتأمل احتراق روما. جمال قابع وسط سبع هضاب، يخترقها نهر التيبر الذي يشطرها شطرين تجمعهما ستة جسور أشهرها جسر سانت إنجيل. سحرت هذه الهضبة أثرياء روما فبنوا عليها القصور فقلّدهم لاحقاً قياصرة روما. أمضى أوغسطين حياته في هذه الهضبة، ويبدو قصره وقصر زوجته ليفي متواضعين بالنسبة إلى من جاء بعده خصوصاً دوموس فلافيا ودوموس أوغوستينا. ولم يبق من  مسرح سيركوس ماكسيموس سوى أطلال خجولة، كان يقف عليها 200 ألف متفرّج. إنه الزمن الذي يلغي حضارة ليسمح بولادة أخرى.
وسط قلب المدينة التاريخي وبين ساحة نافونا ونبع تريفي يقف معبد بانتيون، واحد من أروع المعالم الموجودة في روما. بناه الإمبراطور أدريان بين عامي 118 و125 على أطلال معبد قديم بناه الإمبراطور آغريبا. وثبات المعبد على دوام حاله بكل أبهة يعود إلى الإمبراطور البيزنطي فوكاس الذي أعطاه للبابا بونيفاسي الرابع الذي حوّل كنيسة عام 609 مما أنقذه من الدمار. يتألف معبد بانتيون من سقف يبلغ عرضه 33 مترًا يقوم على ستة عشر عمودًا مرصوصة بالرخام. نُقش على بوابته الرئيسية إهداء إلى آغريبا.ويمثل بانتيون بقبته الهائلة نموذج الفن المعماري للفترة اللاحقة من روما القديمة.
ويتميّز بسقف من البرونز المذهّب. في داخل المعبد يرتاح رسام عصر النهضة رافاييل وملك إيطاليا فيكتور إيمانويل الثاني.

وإذا أخذ زائر المعبد في الاعتبار الآثار النادرة لحمامات ديوكليتيين Diocletien، فإنه قد لا يمكن لمخيّلته أن تدرك أن هذا المجمع الكبير الممتد على مساحة 13 هكتارًا مؤلف من حمامات، ومكتبات وصالونات وحدائق يمكنها أن تستقبل 3000 شخص. فحمامات كركلا تستقبل 1600 شخص، فضلاً عن أنها لا تزال تحتفظ بقسم كبير من شكلها الأساسي. وليس بعيدًا عن فيا أبيا يقع ممر روماني يعود إلى ألفي سنة يربط روما ببرينديسي، وتحديدًا سيرك ماكسنسيه Maxence ومدافن أبطال قوميين رومان مثل قبر سيسيليا متيللا.

الكابيتول
تحضن هضبة الكابيتول إبداع  فنان عصر النهضة مايكل أنجلو المستريح منذ عام 1538 في ساحة دل كامبيدوغليو del Campidoglio  المحاطة بثلاثة قصور هي: كونسيرفاتوري Conservatori و بالازو نووفو Palazzo Nuovo  وبالازو دي سيناترو Palazzo dei Senatro. يضم القصران الأولان متاحف الكابيتول حيث يحوز الزائر متعة النظر إلى مجسّمات برونزية لذئاب رومانية يقال إنها أرضعت رومولوس وريموس. ورومولوس أسس مدينة روما 753 قبل الميلاد. وتقول الأسطورة إن رومولوس وريموس هما ولدا ريا سيلفيا ابنة نوميتور ملك ألبا مدينة الأسطورة اللاتينية،  ويقال إن شقيقها أموليوس سلبها التاج وخشي أن يسترده ولداها حين يكبرا فما كان منه إلا أن وضعهما، وهما رضيعان، في سلة قش ورماهما في نهر التيبر.

وبحسب الأسطورة أنهما نَجَوا بأعجوبة وأن ذئبة وجدتهما فحنت عليهما وأخذتهما إلى الغار التي كانت تعيش فيها وأرضعتهما وحين شبّ الولدان عرفا سر ولادتهما وعادا وقتلا خالهما وأعادا التاج إلى جدّهما. أما من يريد أن يخوض مغامرة تاريخية وفنية في آن واحد، فما عليه سوى أن يسلك كوردوناتا Cordonata، وهو سلّم أثري صممه مايكل أنجلو، يحرسه في القمة مجسمان ضخمان لكاستور وبولوكس.

هكذا هي روما كما غيرها من مدن إيطاليا، تاريخ محتشد بكل أبهة وترف، يرتوي من ينابيع ذات أشكال فنية ومعالم باهرة تتناثر في أرجائها كأنها شخوص تراقب حركة سكان العصر الحديث، فتعرف الوقت الذي تتحرك فيه روما وتعرف كيف تهمس إلى من يزورها بأسرارها المرمّزة وكأنها تريده أن يعود ليحلّ ألغازها التي لا تنتهي إلا بنهاية التاريخ.