العنف الأسري جرائم مؤلمة ترتكب باسم التربية

العنف الأسري,جرائم مؤلمة,الضرب,باسم التربية,يزرعون الألم والخوف,العقد النفسية,الطفل هو الضحية,المعالجة النفسية,كيفية حمايتهن

غنى حليق 20 ديسمبر 2015

بحجة التربية يضربون، بحجة التأنيب يضربون، بحجة التعليم يضربون، بحجة التقويم يضربون، حتى بذريعة الصحة والأكل يضربون... وكأن الضرب دواء لكل داء، يستعملونه ليربّوا جيلاً متفوقاً خلوقاً منزّهاً عن الأخطاء، متناسين أنهم بذلك يزرعون الألم والخوف والعقد النفسية في الأطفال. بعضهم يتغنّى بأسلوبه العنيف، والبعض الآخر يتنصل من فعلته ويقول «كما تربينا نربي»... ويبقى الطفل هو الضحية، ضحية العنف التربوي، والعنف النفسي، والعنف اللفظي، وكل أنواع العنف التي تُمارس باسم التربية والتعليم. لماذا يستخدم البعض العنف مع أولادهم؟ وكيف يعيش المعنّفون وفي ظل أي ظروف؟ وما هي القوانين التي تحمي الاولاد من العنف الأسري؟ مجلة «لها» التقت بعض الفتيات المعنّفات، ومنسقة برنامج «حماية الاطفال من العنف»، السيدة ماريا سمعان، و المعالجة النفسية الدكتورة باسكال فغالي واطلعت منهن على تفاصيل حياتهن وكيفية حمايتهن من العنف في هذا التحقيق. 


ربى م: عنف منذ الولادة
ربى صبية في السابعة عشرة من عمرها، تتمتع بهدوء وجمال في خَلقها وأخلاقها، لكنها رغم ذلك تعاني تعنيف والدها وضربه المستمر لها ولإخوتها، تقول ربى: «منذ أن فتحت عيني على الحياة وأنا أتعرض للضرب، فقد أخبرتني أمي وجدّتي أن المرة الأولى التي ضربني فيها والدي كنت في عمر التسعة أشهر، بعدما نظرت إلى طفل آخر وحاولت أخذ لعبته منه، فما كان منه إلا ان انتزعني من حضن أمي وأدخلني الى الغرفة وبدأ بضربي ليعاقبني على ما فعلته. ولما انتهى من نوبة جنونه، أعادني الى والدتي، وطلب منها أن تضع كمادات باردة على جسدي الطري المحمر والمتورم. أما بالنسبة الى المرة الأولى التي تعرضت فيها للضرب على يد والدي وأنا في كامل وعيي فكانت بعمر السابعة، أذكر يومها أنني تشاجرت مع رفيقي في المدرسة وسببته، فوشت معلمتي بي الى والدي، وما كان منه إلا أن أشبعني ضرباً أمام الجميع في المدرسة. ولما عدنا إلى المنزل، أكمل ضربي وأطعمني الفلفل الحار، علماً أنني تعلمت السُباب منه، بينما كان يقود سيارته، من دون أن أدرك معانيها الحقيقية». بعد هذه الحادثة، بدأت مسيرة تعنيف ربى، إذ كانت تتعرض للضرب المبرح بالعصا والحزام كلما عادت من المدرسة بنتيجة غير مرضية، وتقول: «لم أكن طفلة كسولة، ولكنني لم أكن أحب مادة الرياضيات فلم أتمكن من تحقيق علامات جيدة فيها. وأذكر في إحدى المرات كيف انتشرت الكدمات على كامل جسدي، ولم يكتف بذلك، بل طردني من المنزل في عز البرد، مكتفياً بإعطائي معطفاً، وعند الساعة الثالثة فجراً، سمح لي بالدخول بعدما كاد قلبي يتجمد من البرد والنعس والخوف».

مسيرة العنف في حياة ربى طويلة ومؤلمة، لأن أحداً لم يستطع إيقافها، لا والدتها ولا جدّتها ولا حتى القانون، فوالدها رجل مقتدر ولا أحد يستطيع فرض سلطته عليه، إذ حاولت بعض معلمات ربى التدخل لإنقاذها من هذا الواقع المشؤوم ولم  تقدر، كما حاولت والدتها تقديم شكوى ضده في المخفر وطلب الحماية لها ولأولادها، لكنه كان يجبرها دائماً على سحب الدعوى، بالتوسط أحياناً وبالتهديد أحياناً أخرى. ربى أصبحت اليوم في السابعة عشرة من عمرها، وهي متفوقة في دراستها، وتنتظر بفارغ الصبر بلوغها سن الرشد ودخول الجامعة والتخرج حتى تستقل وتودّع الجحيم الذي تعيشه، لأن مسلسل الضرب ما زال مستمراً معها ومع إخوتها. وتشير ربى إلى أنها تعرضت للعنف منذ شهرين، بعدما أخفت على والدها بعض التفاصيل عن تحركاتها مع صديقاتها، فضربها وداس على صدرها ومنعها من الخروج من البيت مدة شهر. 

تختتم ربى حديثها عن مأساتها بالقول: «لا خلاص إلا بترك المنزل، ولكن كيف وهو يلاحقني في كل مكان، ويعرف كل تحركاتي ولا أحد من أهلي يستطيع مساعدتي! هو يقول إنه يحبني ويضربني من أجل مصلحتي، ولولا هذا الضرب لما كنت متفوقة الآن في دراستي، من دون أن يعلم أنه بذلك يضر بي ويجعلني أكرهه ولا أطيق العيش معه».


سارة . م عنف وضرب جماعي
سارة فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، تعيش وسط خمسة أشقاء ذكور جميعهم يكبرونها سناً، وهذا الوضع يجعلها البنت الوحيدة التي يجب ان تخضع لأوامر الجميع وأهوائهم. فهي بدل أن تنشأ على الدلال من جميع افراد العائلة، تتعرض للعنف منهم، بسبب أو من دون سبب. تقول سارة: «أشعر أحياناً بأنني كبش محرقة للجميع، الكل يريد إهانتي وضربي وتعذيبي، حتى والدي الذي يحبني كثيراً لا يستطيع حمايتي لأنه لا يملك سلطة على إخوتي. يريدونني أن أكون خادمة لهم ولأولادهم ونسائهم، ويتناسون أنني اختهم الوحيدة». 

تتعرض سارة للضرب بمختلف الوسائل، ويتفنن إخوتها في ضربها وطبع الكدمات الملونة على جسدها، وكأنها ليست من فصيلة البشر، كما تقول. وتتابع: «يضربونني لأتفه الأسباب، وأمي بدلاً من أن تدافع عني، تشجّعهم على تعنيفي. سئمت هذه الحياة الظالمة، والتي لا خلاص منها إلا بالموت أو الهرب، وهما من الحلول المستحيلة بالنسبة إلي لأنني فتاة مؤمنة وأخاف ربي. أفكر أحياناً برفع شكوى ضد أهلي لأتخلص من هذا العذاب، إلا أنني أخاف الفضيحة والتشرد بعيداً من عائلتي». 

تقول سارة إن حياة الفتاة في البلاد العربية صعبة ومؤلمة، لأن المجتمع ذكوري، كما تتمنى أن يأتي يوم تتغير فيه هذه القناعة ويصبح للمرأة كيان مستقل.


ناديا م

تصر نادية ابنة الثالثة عشرة على أن والدتها تكرهها، بل إنها تعاملها بخلاف باقي إخوتها، فهي الوحيدة التي تتلقى الضربات العنيفة من والدتها، وتتشاجر معها بشكل شبه يومي. 

ناديا تحب الحياة وعقد الصداقات والاهتمام بنفسها وشكلها، فيما تطلب منها والدتها الاهتمام بدروسها وتنظيف البيت فقط، وتمنعها من مصادقة رفيقاتها في المدرسة، أو تقليدهن في طريقة لباسهن واهتماماتهن. تقول ناديا: «لا أعلم كيف أرضي والدتي لتكف عن ضربي، فأنا أحاول أن أفعل كل ما تريد، ورغم ذلك هي تضربني بعنف ووحشية ولا توفر وسيلة لضربي، فالمكنسة والعصا والحذاء عدّتها المفضلة لتلوّن بها جسدي وترسم عليه بقعاً حمراء وزرقاء وصفراء... ولأتفه الأسباب. أنا الفتاة الوسطى بين إخوتي وعليّ خدمتهم جميعاً، فمثلاً من واجباتي الاهتمام بأختي الصغرى وتدريسها وتحميمها ومراعاتها، وأيضاً خدمة أخي الكبير وتلبية طلباته لأن والدتي دائمة الانشغال بالمطبخ». 

تشكو ناديا من عدم قدرتها على الاهتمام بدروسها بسبب انشغالها بأعمال المنزل والاهتمام بإخوتها، مما يجعلها تتراجع في مدرستها وبالتالي يعرضها للضرب والتأنيب، وفي حال ارادت الدرس وترك ما تطلبه منها والدتها من أعمال منزلية، تتعرض للضرب أيضاً ويتم تهديدها بتوقيفها عن الدراسة. تقول ناديا: «كل يوم ضرب وكل يوم صراخ وتأنيب... تعبت من نفسي وبت أكرهها وأكره والدتي ولا أعرف كيف أتخلص من العيش معها أو تجنب تعنيفها لي. فالجميع يوافقها على ذلك... والدي وخالاتي وإخوتي، ولا أجد من يساندني سوى صديقاتي في المدرسة، ولذلك هي لا تريدني ان أتحدث معهن». 

تشعر ناديا باليأس كلما ضربتها والدتها وتفكر بترك المنزل ولكن لا تعرف إلى أين تذهب، فهي تخاف الخروج بمفردها وتدرك أن ما ينتظرها في الخارج أكبر وأقوى من ظلم والدتها لها. لجأت ناديا أخيراً الى عادة تشطيب جسدها وتجريحه، وأصبحت تقوم بذلك بعد كل حفلة ضرب تتعرض لها، فهذا الفعل برأيها يريحها نفسياً ويجعلها تنتقم من نفسها، لأنها لا تجد أحداً لتنتقم منه سوى نفسها. توضح ناديا: «كلما تعرضت للضرب، أدخل إلى غرفتي أو إلى الحمام وأعزل نفسي عن العائلة وأشطب يدي من دون أن يعلم أحد بي. هذا الفعل يشعرني بالراحة ولا أعلم لماذا. أنا أنتظر الفرج وأحاول قدر المستطاع تجنب المشاكل مع أمي ولكن مع الأسف من دون جدوى لأنها تهوى المشاكل وتتلذذ بضربي». 


منسقة برنامج «حماية الاطفال من العنف» ماريا سمعان:
تفيد منسقة برنامج «حماية الاطفال من العنف»، ماريا سمعان ان القانون الرقم 2002/422 الصادر في عام 2002 والخاص بحماية الأحداث في لبنان، ينص على ان أي حدث أو طفل من عمر صفر ولغاية ثمانية عشر عاماً موجود في بيئة تعرّض أمنه وسلامته الجسدية والنفسية للخطر، يجب حمايته، وعلى الدولة والسلطات المختصة تأمين هذه الحماية، وأن في إمكان أي شخص معنّف يعيش على الأراضي اللبنانية ويقع ضمن الفئة العمرية المذكورة طلب الحماية. أما بالنسبة الى آلية تنفيذ الحماية فتقول سمعان: «ثمة محكمة خاصة بالأحداث يرأسها قاضي الأحداث ويساعده فيها الاتحاد اللبناني لحماية الأحداث، وهم اشخاص مختصون وموكلون بتطبيق هذا القانون على الاراضي اللبنانية ويعرفون باسم UPEL».

وتضيف: «بالنسبة الى آلية التبليغ عن العنف أو الخطر، يمكن الطفل نفسه رفع شكوى مباشرة بما يتعرض له من عنف أو ظلم. كما يمكن أي شخص شاهد حادثة عنف، أو يعرف طفلاً يتعرض للضرب، التوجه إلى الجمعيات المختصة، أو إلى أقرب مخفر في المنطقة والتبليغ عن الحادثة، أو التقدم شخصياً بشكوى لدى المدعي العام، كما يمكنه الاتصال بالاتحاد اللبناني لحماية الاحداث UPEL، خصوصاً أن هناك أشخاصاً تابعين للاتحاد في كل قصور العدل  في لبنان، ولهم رقم خاص في كل منطقة يمكن الاتصال بهم عبره. وإلى جانب هذا الاتحاد، هناك جمعيات أخرى مختصة بالحماية، مثل  جمعية «كفى» وفي إمكان المعنّفين اللجوء اليها». وترى سمعان ان من الاسهل تقديم شكوى والوصول إلى القانون عبر هذه الجمعيات، لأن أغلب الناس لا يملكون الوعي والخبرة الكافية في مواجهة هذه الأمور. 

وعن آلية العمل في هذه القضايا، توضح سمعان: «في ما يخص قضايا العنف ضد الاطفال، عادة لا يتم العمل بمسار قضائي فقط، بل نُجري استبياناً عن وضع الطفل يتضمن: هوية المعتدي، نوع الاعتداء، إلى أي مدى يمكن تأمين سلامة الطفل، وما معدل وعي الأهل واستعدادهم للتغيير، أو مدى تقبلهم فكرة تقويم سلوكهم... كل هذه الإجراءات، ترشدنا إلى المسار الصحيح، وتوضح لنا ما إذا كان الوضع سيتحول الى المسار القضائي أم لا. ففي المسار القضائي يكون العمل مع مساعدة اجتماعية، وهي بدورها تقوم بالاستبيان ودراسة وضع الطفل والظروف المحيطة به: قدراته، بيئته، سلامته، صحته والتأثير النفسي الاجتماعي فيه، ومن ثم تضع خطة عمل مع أهل الطفل، لأننا نؤمن بأنهم المسؤولون الاساسيون عن تأمين حماية طفلهم، وعندما لا يستطيعون ذلك، نقرر الذهاب إلى المسار القضائي ونقوم بتبليغ القاضي. 

وعن المشاكل التي يواجهونها، تقول سمعان: «مع الأسف، أغلب الاشخاص يعتبرون الضرب نوعاً من أنواع التربية، ومن أسسها. كما أن المادة 36 من قانون العقوبات اللبناني، تبيح للأهل التأديب بحدود ما يبيحه العرف العام في كل منطقة. أي في حال كان العرف العام في المنطقة تعليق الطفل على الشجرة، فلا يعارض القانون هذا الفعل، وهذا شيء خطير ومرفوض، ولذلك صدر مرسوم بعد هذا القانون نص على منع الضرب نهائياً. ولكن بما أن القانون أقوى من المرسوم، لا يُعمل كثيراً بهذا المرسوم في كل المناطق ولا في جميع الحالات». 

والضرب بالنسبة الى جمعية «كفى»، والى سمعان بالذات، مرفوض بجميع أشكاله، ولكن أي شكوى تقدم الى القانون تحتاج إلى وقائع وآثار أذى ظاهر حتى تأخذ مسارها الطبيعي، وتقول سمعان: «أحياناً نتوجه إلى القانون مع تقرير طبي مثبت من المعالجة النفسية، كما قد نحتاج أحياناً إلى إفادة طبيب شرعي كي نتواصل مع قاضي الاحداث». تتأسف سمعان لاعتبار الضرب في لبنان نوعاً من أنواع التأنيب، وتؤكد أن أغلب الاهل إذ يجهلون استخدام وسائل أخرى في تربية أطفالهم، يجدون في الضرب الوسيلة الأسهل والأنجع لردعهم، من دون ان يدركوا أن الطفل يتوقف عن الفعل خوفاً من العقاب وليس عن قناعة وتعلم، كما يمكنه أن يقدم على هذا الفعل بالسر. 

وعن اسلوب التعاطي مع الاهل والخطوات المتبعة، تقول سمعان: «ننطلق مع الأهل من مبدأ عدم وجود أهل غير جيدين أو لا يريدون مصلحة أولادهم، ونعتمد فكرة «أنا لم أر ولم أتعلم» وسيلة في التربية. ورغم أن بعض الأهل يتجاوبون معنا، ثمة أهل يعارضوننا، فنضطر الى اتخاذ خطوات سريعة لمنع الأذى عن الطفل وحمايته من العنف، ونستعين بالقاضي أوUPEL ، وإذا لم يتجاوب الأهل، يقرر القاضي سحب الولد من البيت ومعاقبة المسؤول عن الأذى». 

أما عن المكان الذي يلجأ إليه الطفل بعد سحبه من بيته، فتورد سمعان: «مع الاسف ليس لدينا نظام أسر بديلة ممنهج، لذلك يوضع الطفل في مكان آمن، أو  مأوى خاص، أو ميتم يبقى فيه الطفل مدة زمنية محددة يعاد بعدها إلى كنف عائلته، أو يبقى في ميتم أو  يرسل إلى دار رعاية في حال لم يتغير الوضع في بيته الى الأحسن. من المؤسف أيضاً أنه لا يوجد عدد كبير من هذه المراكز القادرة على استقبال الأطفال في لبنان، ونواجه هذا التحدي كلما أحيل ملف إلى القاضي، لأن عدد المآوي محدود جداً وغير قادر على استيعاب جميع الاولاد الذين يحتاجون إلى حماية .... وقد نضطر أحياناً إلى التوسل للمراكز أو أحد أفراد العائلة كالعّمة أو الخالة... لاحتضان الطفل». 

وتختتم سمعان حديثها مؤكدة «أن قرار سحب الولد من البيت يكون عادة من أجل مصلحته وحمايته ومعالجته نفسياً من آثار العنف الممارس عليه، ونحن كجمعية «كفى» نعمل على الصعيد الوطني عبر مراكزنا من أجل مصلحة الطفل وتعريفه بحقوقه».


المعالجة النفسية الدكتورة باسكال فغالي

ترى المعالجة النفسية والأستاذة الجامعية الدكتورة باسكال فغالي أن علم النفس ينظر إلى مسألة ضرب الأهل لأولادهم من زاويتين، ويفرق بين حالتين: الحالة الأولى، وتتمثل بالأم الموظفة التي تعمل داخل البيت وخارجة وتكون محبّة ومتفانية، تهتم بأولادها وبأدق تفاصيل حياتهم وتعتني كثيراً بطريقة تربيتهم من الناحية الجسدية والنفسية، ولكنها تعاني في المقابل اضطرابات نفسية بسبب ضغط العمل وتراكم الهموم والمشاكل، مما يضطرها أحياناً للتعبير عن هذا الضغط بضرب أولادها بعدما يستفزونها بعمل غير مقبول. في مثل هذا الوضع، لا يمكن اعتبار هذه الأم مخطئة إذ تمارس العنف على أولادها، كما لا يمكن أن نظلمها ونضعها في خانة العنف الأسري، لأن نظريات علم النفس التي كانت في الماضي تحرّم الضرب على الأمهات، اكتشفت أخيراً أن هؤلاء الأمهات قد تعرضن لموقف صعب دفعهن الى فعل الضرب، الذي يشعرهن بالهدوء ويضع حداً لتصرفات أبنائهن. فالولد يحتاج في هذه الحالة أن يتعلم أن والدته قد تخرج عن إرادتها عندما يخطئ، وأنه إذا استمر بسلوكه الخاطئ فسيزعج والدته ويفقدها السيطرة على أعصابها ويدفعها الى ضربه. لذا، ننصح الأم بالتروّي قبل أن تلجأ إلى فعل الضرب، فتدخل إلى غرفتها وتبتعد عن ابنها وليس العكس. وبعد أن تفهمه أنها لن تستطيع الاستمرار معه في ظل أفعاله المزعجة والتي تدفعها الى ضربه، عليها أن تحمّله جزءاً من المسؤولية وإخباره بأنها لا تريد الكلام معه لمدة ساعة ريثما تهدأ أعصابها. وفي حال فقدت السيطرة وضربته، عليها ان تشرح له لماذا أقدمت على ذلك وتحمّله جزءاً من المسؤولية.

أما الحالة الثانية فتتمثل بالأهل الذين يعانون الضغط والتوتر بسبب المشاكل في ما بينهم، كخلاف ما بين الأم والأب، أو مشاكل مادية أو خلافات عائلية... يلجأ هؤلاء عادة إلى تفريغ غضبهم في أولادهم (فشة خلق) عبر ممارسة العنف الكلامي أو المادي (الضرب) عليهم. فالأم التي تظهر همومها لأولادها وتخبرهم بما يحصل معها، فإنها تقوم بفعل عنف أقوى من الضرب. والأب الذي يقلل من شأن زوجته أمام أولادها أو العكس، يكون أيضاً يمارس العنف على أولاده. ان الاضطربات النفسية مثل القلق والخوف والاكتئاب تدفع الأهل الى ضرب أولادهم لأتفه الأسباب، وتقودهم الى ممارسة العنف عليهم بطريقة بشعة وغير مبررة، إذ يصبح الضرب لدى الأم مثلاً عادة ونوعاً من العلاج لحالتها، تمارسه كلما شعرت بالضيق بهدف الشعور بالراحة وتفريغ غضبها. وهذا الفعل مرفوض وغير مقبول علمياً وإنسانياً، وعلينا التنبّه عند حصوله. وعادة يتم اللجوء الى فعل الضرب أيضاً في الحالات التي يعاني فيها أحد الوالدين مرضاً أو إدماناً على الكحول أو المخدرات... وهذا الفعل يسبب حالات عصاب واضطرابات نفسية عند الاولاد. 

وترى فغالي أن العنف غير المبرر عبر الضرب يقابله في بعض الأحيان عنف كلامي غير مبرر أيضاً كالسُباب والتجريح، إذ يهان الولد بكرامته وصورته ويُدمر نفسياً ومعنوياً، وهذا النوع من العنف أقوى وأخطر من الضرب الجسدي، لأن الولد لا يمكنه تخطيه بسهولة. وعن علاقة الأم والأب بالأولاد، تقول فغالي: «ان تأثير الضرب أو العنف الممارس من الأم على الأولاد يختلف عن تأثير الضرب الممارس من جانب الأب، إذ يمكن الولد تخطي ضرب والدته له ولكن لا يمكنه تخطي ضربه من والده. ووفق التجربة العيادية فإن العنف أو الضرب الممارس من الأب يولّد لدى الولد اضطرابات نفسية، وخصوصاً عند البنت، إذ يعكس هذا الفعل صورة سلبية لديها عن الرجل ويدفعها احياناً الى تجريح نفسها، لأن الألم الجسدي بالنسبة اليها يخفف من الألم النفسي. والفتاة التي تتعرض للضرب من والدها، تفقد معنى الأمان والاستقرار وتهتز صورة الرجل لديها، وهي في حال وجدت مستقبلاً الشخص الذي يحبها ويحترمها فلن تستطيع عيش هذا الحب بسهولة، وستصبح بحاجة الى علاج نفسي لتخطي هذه المرحلة». 

وتلفت فغالي إلى أهمية دور المرأة في التربية والتوجيه وحماية الأولاد من العنف، فهناك امهات يعرفن كيف يربين اولادهن، في مقابل أخريات جاهلات يعملن على حث الأب على ضرب أولاده عبر إخباره فور عودته الى المنزل بكل الاخطاء التي ارتكبها أولاده، فيحمّسنه على ضربهم وتعنيفهم. وتحث فغالي الأم على القيام بدورها الصحيح في المنزل فتوازن ما بين الأب الأولاد وتعمل على تجنيبهم الضرب بكل أشكاله لأنه يؤثر في صحتهم النفسية والجسدية.

وتفيد فغالي بأن تربية الأولاد من أصعب المهمات التي يواجهها الأهل والمربون والمسؤولون والمعلمون. وعلى الجميع مراقبة سلوكهم وتصرفاتهم والعمل على تقييم قدراتهم واستيعابهم لتحمل الضغط والعمل على أساسه. فالأم التي تشعر بالتعب والضغط، عليها أن تعزل نفسها، وعلى الأستاذ الذي لا يستطيع تحمل عدد كبير من التلامذة أن يغير مهنته أو يبدل أسلوبه، لأنه لا يمكننا دائماً لوم الولد وجعله كبش محرقة لكل مشاكلنا، بل علينا ان نقيس قدراتنا وطاقتنا والعمل على أساسها، فمثلاً لا يمكن الأم ان تلعب جميع الادوار من دون ضغط، كما لا يمكن الأب أن يربي أولاده من دون صعاب، وعلى الأم والأب التشارك والتعاون وتقسيم والادوار، بغية الحفاظ على صحة أولادهما النفسية والجسدية. 

وتحذر فغالي من اتباع أسلوب الضرب مع الولد، لأنه يولد عنده حالات نفسية صعبة توثر في تكوين شخصيته في المستقبل، إذ يصبح معرضاً لأن يكون خاضعاً وخجولاً وراضخاً ومكتئباً فلا يستطيع إقامة علاقات سليمة بينه وبين رؤسائه في العمل، كما تصبح صورة السلطة مشوهة عنده فلا يتمكن من تحصيل حقوقه أو التعبير عن آرائه بحرية، وبالتالي قد يخاف من العلاقات الجنسية لأن صورة الأب أو الأم لديه مشوشة.