الرعاية التلطيفية...
راحة الحلقوم, علاج, مشكلة / مشاكل جنسية, رعاية صحية, التعايش مع المرض, مريض / مريضة, منزل لبناني, مرحلة / مراحل المرض, أمراض مستعصية, الدعم الإجتماعي, وقاية من النكسة النفسية
06 ديسمبر 2011كلّ يقف في مواجهة المرض بطريقة مختلفة، فثمة ما يجعله أكثر صعوبة أو بالعكس ثمة عوامل تسهّل لحظات المرض. يبقى الأمل في الحياة والشفاء دائماً موجوداً مهما كانت الظروف.
فالمريض، أياً تكن حالته، يرى أمامه الأمل، حتى في اللحظات الصعبة التي تصبح فيها الفرص ضئيلة ويقف فيها الطب عاجزاً عن فعل المزيد فتصبح المحاولات كلّها دون فائدة إلا في التخفيف من الآلام وإطالة العمر لبعض الوقت ليس إلا.
في حالات معينة، يصل المرض إلى مراحل لا يمكن فيها الرجوع إلى الوراء فالكل يقف عاجزاً ولا بد من تسليم الأمور إلى إرادة الله. هي أصعب مراحل الحياة عندما يصبح فيها المريض معلّقاً بين الحياة والموت.
وما أصعب هذه اللحظات على عائلة المريض وأحبائه الذي يرون من يحبون معذباً فيحاولون التمسك به «بأنانية» حفاظاً على وجوده بينهم، وإن كان عذابه يؤلمهم، فلا بد من الاختيار الصعب عندها.
كل من يواجه حالة مرضية صعبة تهدد حياته، يحتاج إلى دعم ورعاية خاصة تؤمنهما «الرعاية التلطيفية» Palliative care التي لا تساعد المريض فحسب بل أفراد عائلته أيضاً ليحسنوا التعامل مع حالة مريضهم ويعالجوها بأفضل طرق ممكنة، هذا مع ما تؤمنه الرعاية التلطيفية من دعم نفسي ومعنوي وتعاطف إنساني للعائلة ككل وللمريض بشكل خاص ليتعايش الكل مع المرض ومخلّفاته وآثاره بأفضل ما أمكن.
فالهدف هو تأمين نوعية حياة فضلى للمريض والعائلة بالتماشي مع العلاجات المطلوبة التي يتم مساعدة المريض أيضاً للاستفادة من فوائدها قدر الإمكان.
لذلك، تعطى الرعاية التلطيفية أهمية موازية للعلاج الطبي لما تؤمنه من تسهيلات لحياة المريض وعائلته في اللحظات الصعبة التي يعيشونها في المراحل المتقدمة للمرض أو أيضاً عندما يصبح الطب عاجزاً عن مساعدة المريض.
يحتاج كل مريض في مواجهة مع مرض خطير إلى من يريحه ويسانده، سواء كانت الراحة جسدية تخفف عنه عبء أعراض المرض ومضاعفاته، أو نفسية تخفف حدة التوتر والخوف والقلق.
كما تبرز حاجة المريض إلى من يزوده بكل المعلومات اللازمة عن حالته، لأن المعرفة الوافية بالمرض تساعد في مواجهته بشكل أفضل وتسمح بفتح مجالات أوسع في الاختيار لجهة طرق الرعاية والعلاج، مما يبرز أهمية الرعاية التلطيفية التي تسهل مختلف الأمور على العائلة ككل لتتابع حياتها بشكل طبيعي، كما تخفف من أعباء المرض على المريض وتدعمه وتسانده وتؤمن له نوعية حياة فضلى، قدر الإمكان، على أيدي اختصاصيين في المجال الطبي، وتحديداً في الرعاية التلطيفية.
يحق لكل مريض أن يختار طرق العناية والعلاج في الأيام الصعبة التي يمرّ بها لتكون الأمور اسهل له، فيمكن أن يختار أجواء منزله الدافئة والحميمة لأنه يرتاح فيها حتى في مرحلة المرض، مع من يحب، بدلاً من سرير المستشفى البارد حيث يشعر بالوحدة والغربة بين جدران غرفته الأربعة.
فريق جمعية «بلسم» المتخصص في الرعاية التلطيفية يضم أشخاصاً اختاروا المجال الطبي في جانب إنساني يتطلّب الكثير من العاطفة والصبر والحنان لكل مريض يتحوّل إلى فرد من العائلة لتسهيل أيامه الصعبة وتخفيف وطأة المرض عليه في أجواء دافئة يشعر فيها بالراحة النفسية والجسدية.
الطبيبة الاختصاصية في طب الأسرة هبة العثمان وجدت نفسها تندفع شيئاً فشيئاً في مجال العناية التلطيفية فتلقّت تدريباً فيه وأسست «بلسم» وهي الآن المديرة الطبية في المركز، بعد أن لامست عن قرب معاناة مرضى يعانون أمراضاً مستعصية أو مزمنة ويغرقون في عذاب جسدي ونفسي مع عائلاتهم دون أن يجدوا من ينتشلهم، خصوصاً عندما يقف الطب عاجزاً في حالات معينة.
وفي هذا اللقاء تحدثت عن أهمية الرعاية التلطيفية للمرضى والحاجة إلى نشرها أكثر فأكثرها لدورها الجوهري في تلطيف عذاب المريض وعائلته.
تجارب حياة مع العناية التلطيفية
كريستيان شامي: أبشع شعور عندما ننتظر موت شخص عزيز
لا شك أن الحزن الذي يأتي بعد فقدان أحد المقرّبين لا يمكن أن يلغى نهائياً أو يزول في لحظة، لكن بدت كريستيان شامي التي فقدت والدها قبل أشهر قليلة أكثر إيجابية في نظرتها إلى المراحل الأخيرة في حياة والدها الذي بدت متعلّقة به بشكل كبير بفضل العناية التلطيفية التي قدمتها "بلسم".
فرغم الغصّة التي تشعر بها والألم والحزن الكبيرين لفقدانها والدها، ورغم اشتياقها الكبير له، تنظر إلى تجربة العائلة مع "بلسم" أو مع العناية التلطيفية بشكل عام، بإيجابية، خصوصاً أنها ترى أنهم، كعائلة مروا في مرحلة كانوا فيها بأمس الحاجة إلى سند وكان الطب عاجزاً عن الوقوف بجانبهم.
"كنا بأمس الحاجة إلى سند، فأبشع شعور لدى الإنسان أن ينتظر موت شخص عزيز. ويتطلب فهم هذا الشعور لدى شخص غارق في الحزن قلباً كبيراً. ساندنا فريق" بلسم" معنوياً وعملياً عندما وقف الطب عاجزاً عن تقديم المزيد.
فما أصعب اللحظات التي كنا نرى فيها الوالد متألماً ومعذباً وعاجزاً. والدي نفسه كان يحب وجود د. هبة العثمان وفريق "بلسم" لأنه كان يشعر عندها بارتياح نفسي، كنا كلنا بحاجة إلى المعنويات لنتابع الطريق ونصمد.
أصيب والدي بسرطان القولون فعولج لكن سرعان ما تبين بعد فترة أنه عاد وظهر منتشراً إلى الدماغ وفشل الطب في معالجته. كنا نراه ينطفئ أمامنا شيئاً فشيئاً دون أن نتمكن من تقديم أي مساعدة له. بعد أن كنا نراه بكامل صحته ونعتمد عليه في كل شيء، صرنا نراه ينهار أمامنا.
لكن تدخل فريق "بلسم" ساعدنا كثيراً لفهم ما يحصل ولنعرف التعامل مع الوضع، مهما كانت صعوبته. كنا نتعذب كثيراً عندما نرى كيف أن بعض الأطباء في المستشفى يفقدون أي إحساس تجاه المريض عندما يفقد الأمل.
لكننا سرعان ما وجدنا الدعم والمساندة والإنسانية في العناية التلطيفية. مكث والدي في المنزل في الفترة الأخيرة وأمّنّا له فراشاً من الماء لتجنب التقرحات.
كان لا يزال في وعيه، لكنه كان يعجز عن الحركة ويتكلّم بصعوبة. رغم ذلك، كان يعبّر عما يريده ونفهم من عينيه ما يحتاج إليه. لكنه كان يعبّر لأمي أكثر. وصلنا إلى مرحلة لم يعد باستطاعتنا القيام فيها بشيء ولم تعد للأدوية أي فائدة.
كان العلاج بالأشعة العلاج الوحيد لكن والدي وصل إلى مرحلة فقد فيها الذاكرة وصار عاجزاً عن القراءة كما كان معتاداً. أصبح عاجزاً عن القيام بأي حركة، وكانت د. العثمان تفسر لنا أهمية تجنب التقرحات والطرق الفضلى لذلك.
كما علّمتنا كيف نطهّر الجروح. وعندما يتألم كانت ترسل لنا من يساعدنا في أي وقت كان. بوجود" بلسم" لم نعد نحتاج إلى المستشفى، خصوصاً أن الأطباء كانوا قد أوضحوا أنهم عاجزون عن تقديم المزيد من المساعدة ولم يعودوا يقبلون بوالدي في المستشفى.
كان يحضر ممرض من "بلسم" ليحممه، كما يحضر معالج فيزيائي. كنا نفعل ذلك من أجل أمي أيضاً لأننا نرى عذابها. كان يستيقظ لبعض الوقت فقط، في المرحلة الأخيرة، لينادي أمي.
كنا نعطيه جرعات من المورفين لتخفيف الألم لكنه في النهاية فقد الوعي، وكانت أمي مصرة على المتابعة لأنها تريده أن يعيش رغم كل شيء. في النهاية، أردنا أن يموت والدي مرتاحاً في فراشه بيننا.
وقد قمنا بواجباتنا كاملة ومات مرتاحاً في منزله، وهذا ما يشعرنا بالراحة النفسية رغم اشتياقنا له وألمنا لفراقه".
ماريا بشور عن والدتها: عادت أمي إلى الحياة بفضل مساندة فريق"بلسم"
اكتشفت السيدة كاثرين بشور إصابتها بسرطان المبيض قبل 5 سنوات ومن ذلك الوقت خضعت لثلاث عمليات. وبحسب ابنتها ماريا كانت في كل مرة تخضع للعلاج الكيميائي وتتحسن ثم تعود حالتها لتسوء.
ففي كل مرة يختفي المرض ويظهر مجدداً. فالمشكلة أن سرطان المبيض لا تظهر أعراضه إلا عندما يكون قد بلغ مراحل متقدمة مما يزيد من صعوبة اكتشافه في مرحلة مبكرة.
لذلك اكتشفت السيدة كاثرين إصابتها بالمرض عندما كان قد أصبح في مرحلة رابعة وانتشر في الكبد ومواضع أخرى. تتحدث ماريا عن رحلة والدتها الطويلة مع المرض قائلة: "في الصيف الماضي خضعت والدتي للعلاج الكيميائي للمرة الثالثة.
كما أجريت لها جراحة تفميم القولون Colostomy التي تجرى فيها فتحة تصريف في القولون لأن الورم وصل إلى بطنها. كانت هذه الجراحة أكثر ما أثر بوالدتي وزعزع ثقتها بنفسها.
انزعجت نفسياً كثيراً من هذه الجراحة ومرت بمرحلة صعبة جداً لكنها الآن تحسنت كثيراً ويمكنني القول أنها الآن في أفضل المراحل منذ أن أصيبت بالمرض، خصوصاً أنها عادت وتقبلت فكرة الجراحة التي أجريت لها في القولون.
والفضل في ذلك لفريق "بلسم" الذي قدم لها الكثير من الدعم والمساندة مما ساهم في تحسين نفسيتها. نتصل بهم في أي وقت ويقدمون لنا المساعدة. ففي الواقع لم نكن نعرف الطرق الصحيحة للعناية بوالدتي وكان من الصعب الاتصال بالطبيب في أي وقت.
تبدل كل شيء من تعارفنا بفريق"بلسم" فالإنسان دائماً يشعر بتحسن عندما يجد من يساعده، خصوصاً إذا كان في مجال الطب. أصبحت الآن الأمور أسهل بكثير، حتى الفحوص والعلاجات صارت أسهل ولا تتطلب من أمي التنقل في كل مرة.
فثمة من يجري لها فحص الدم في المنزل دون أن يطلب منها الذهاب إلى المستشفى. كما تجرى كل المعاملات اللازمة لها ويكفي أن تذهب هي لإجراء جلسة العلاج الكيميائي في وقت قصير في العيادات الخارجية للمستشفى وتعود إلى المنزل، بدلاً من العذاب الذي كانت تعانيه والمعاملات الطويلة التي كانت تجرى في المستشفى.
وجدت اهتماماً كبيراً منهم، خصوصاً أني اضطررت للسفر ووجدت من يطمئنني على حالة أمي ومن يساعدها في غيابي. أيضاً حصلنا على الكثير من المساعدة لجهة المعلومات التي قدمت لنا.
أشعر بأن والدتي تحسنت كثيراً، خصوصاً بعد أن وجدت من تثق به وتسأله عما تريد وعما يشغل بالها دون أن تشعر بالإحراج لتفهم ما يحصل لها.
فكانت قد وصلت إلى مرحلة تشعر فيها باليأس، خصوصاً أنها غير قادرة على سؤال الأطباء الذين لا وقت لديهم ولا يملكون الصبر الكافي لشرح كل الأمور للمريضة.
كانت قد تعبت كثيراً، أما اليوم فهي تحمل الهاتف وتتصل بفريق "بلسم" وتسأل وتفهم وتشعر أنه صار لها دور وتتمتع بالاستقلالية بعكس ما كانت تحسّ به في المرحلة السابقة.
أصبحت معنية بكل ما يحصل لها وتتخذ القرار وتتحدث معنا، كما أنهم يعطونها النصائح فتشعر أنها تشارك بعلاجها وهذا لعب دوراً أساسياً في تحسين نفسيتها. أرى أن نظرتها إلى الأمور صارت إيجابية وصارت تخرج من المنزل.
هي المرة الأولى التي تشعر فيها بالأمل بعد الأشهر الصعبة التي مرت بها في مرحلة سابقة. يمكنها أن تنهض وتتحرّك وتخرج بضع مرات في الأسبوع وكأنها عادت مجدداً إلى الحياة ولا شك أن لدعم فريق"بلسم" ومساندته دوراً كبيراً في ذلك. كما ساعدنا الكل نحن أيضاً كعائلة لنصبح أكثر فاعلية في مساعدتها".
عن "بلسم"
"بلسم" منظمة غير حكومية للعناية التلطيفية تهدف إلى تخفيف آلام المرضى الذين يعانون أمراضاً مزمنة تحدد الحياة أو تحد من نشاطهم وتسيء إلى نوعية حياتهم. وتركز"بلسم" على توفير مستوى عالٍ من خدمات الرعاية التلطيفية للأشخاص الذين يتعايشون مع أمراض مزمنة أو يستعصي شفاؤها بغض النظر عن الجنسية والجنس والسن والدين والوضع الاقتصادي والانتماء السياسي. ويقدّم المركز الخدمات مجاناً سواء في رعاية المرضى أو نشر التوعية أو حشد الدعم أو القيام بالدراسات والأبحاث. يتم تمويل
"بلسم" من خلال المنح الخاصة، كما سيتم السعي لدى المؤسسات الوطنية والعالمية لدعم أنشطة المركز.
أهداف "بلسم"
العناية بالمرضى: يتولّى فريق متعدد الاختصاصات مهمات دعم المرضى وعائلاتهم وتشجيعهم لاتخاذ القرارات المناسبة لرعايتهم الطبية بما يتوافق مع قيمهم ومعتقداتهم. كما يحاول الفريق التخفيف من ألم المريض والوقاية منه ومساعدته للحفاظ على أفضل نوعية حياة رغم المرض.
هذا إضافةً إلى الدعم النفسي والاجتماعي والروحي والعملي. علماً أن خدمات "بلسم" متوافرة 24 ساعة على 24 طوال أيام الأسبوع، إلى جانب العناية في المنزل التي يتم توفيرها أو في المستشفى.
حشد الدعم: يتم العمل على نشر العناية التلطيفية على مستوى المجتمع ككل وضمن سياسات الصحة العامة. ويتم التعاون مع واضعي السياسات والمشرعين بهدف وضع سياسة وطنية لتطوير العناية التلطيفية وتعديل القوانين التي تشكل حواجز في وجه تأمين العناية التلطيفية في لبنان كالقوانين التي تمنع استخدام الأدوية التي تخفف الألم. كما يتم السعي لرفع درجة الوعي حول فلسفة تطبيق العناية التلطيفية وحشد الدعم للاعتراف بالعناية التلطيفية كاختصاص طبي.
بناء القدرات: يسعى فريق عمل"بلسم" لجعل العناية التلطيفية متوافرة لكل الناس في لبنان من خلال توفير فرص التدرب على العناية التلطيفية لاختصاصيين في المجال الطب.
ويتم العمل على إدخال مفاهيم العناية التلطيفية ضمن مناهج كليات التمريض والطب. كما تقام المؤتمرات وتنظَّم دورات وورش عمل بالتعاون مع متخصصين عالميين في العناية التلطيفية.
الأبحاث: نظراً لكون المعلومات المتوافرة عن العناية التلطيفية محدودة، يساهم فريق عمل "بلسم" في تطوير قاعدة المعلومات عبر نشر الأبحاث من خلال إشراك الآخرين بنتائج تجاربه واستنتاجاته.
فريق العمل
يضم فريق عمل "بلسم" أطباء وممرضات وصيادلة واختصاصيين في علم الاجتماع وفي الصحة النفسية وفي التغذية. وقد تلقى أعضاء الفريق تدريب على العناية التلطيفية في مراكز عالمية متخصصة.
د. هبة العثمان: كرامة المريض أولوية لنا
- متى تبرز الحاجة إلى الرعاية التلطيفية؟
تبرز حاجة المريضة إلى الرعاية التلطيفية في الحالات الصعبة والأمراض المزمنة حيث يمكن أن تلعب دوراً مهماً في تخفيف آلام المريض والحد من تطور المرض وأعراضه، عند الإصابة بالسرطان.
كما تلعب دوراً لدى مرضى القلب الذين يدخلون المستشفى بشكل متكرر. في هذه الحالات التي يصبح مستحيلاً فيها العودة إلى الوراء، لكن لا يزال المريض حياً يرزق، يمكن فعل أي شيء للمساعدة وللتخفيف من عذابه وألمه ومعاناته.
وحتى عندما لا يكون الشفاء ممكناً، يمكن للفريق المتخصص في الرعاية التلطيفية فعل شيء لتقديم المساعدة سواء للمريض أو لعائلته في الجانبين النفسي والجسدي، خصوصاً أنه في هذه الحالات الصعبة يبرز عاملا الخوف والاكتئاب ويحتاج أفراد العائلة ككل إلى الكثير من الدعم والمساندة.
- في الحالات المستعصية التي يقف فيها الطب عاجزاً ويصبح فيها الموت وشيكاً، ما الذي يمكن فعله في مجال الرعاية التلطيفية؟
في مجال الرعاية التلطيفية، لا نخاف من الموت لكن في الوقت نفسه لا نسرّعه بل نترك الأمور تجري بشكل طبيعي.
نعرف جيداً كلّنا أن الموت سنّة الحياة، ويقف الطب عاجزاً أمام حالات معينة، يبرز دور العناية التلطيفية في التخفيف من حدة عذاب المريض، فإذا كان لا أمل له بالعيش، نحاول أن نخفف من عذابه ونؤمن له نوعية حياة فضلى في الأيام المتبقية له.
وفي الوقت نفسه، هذا لا يعني أننا لا نحاول أن نحسّن صحته بل نعمل ما بوسعنا بالطرق الطبيعية لكن قد نفعل ذلك في غرفته وفي محيطه حيث يشعر براحة كبرى نفسية وجسدية بدلاً من المكوث في المستشفى دون فائدة، خصوصاً أن في مكوث المريض الذي لا أمل له في الشفاء، في المستشفى لفترة طويلة، إذلالاً وإهانة له ولعائلته لأن الرعاية التي تؤمن له لا تعود نفسها من جانب الجسم الطبي. كما تصبح حياته دون معنى.
أما عندما يكون في منزله، في سريره ومع أفراد عائلته، فنحاول كفريق متخصص في الرعاية التلطيفية، المحافظة عليه وعلى كرامته بالدرجة الأولى لأن كرامة الإنسان تبقى أولوية لنا سواء في مرضه أو عندما يكون في كامل صحته. وأشير إلى أننا نتواجه أحياناً مع قرارات صعبة مع العائلة ومن المرضى، فنحن نعلم جيداً أنه، حالياً، ثمة إمكانات متوافرة لإطالة الحياة وفي الوقت نفسه لإطالة مدة العذاب بالنسبة الى المريض.
على سبيل المثال، ثمة حالات يكون فيها المريض في غيبوبة ولا أمل له في الشفاء، فيعيش فترة طويلة بفضل الآلات التي تساعده على التنفس والاستمرار بالحياة. وفي مجتمعاتنا، من الصعب الكلام مع مريض أو عائلته في هكذا موضوع، حيث يصعب تقبل فكرة نزع الآلات عنه لوقف عذابه، فيفضل الأهل بقاء المريض بينهم ولو بهذه الطريقة معلّقاً بين الحياة والموت ومعذباً بدل من خسارته.
- هل يكون اختيار المريض المكوث في المنزل ممكناً في كل الحالات؟
مع العناية التلطيفية، يمكن نقل الآلات التي يحتاجها المريض إلى منزله حيث يشعر براحة كبرى، فالأهم هو الاختيار في هذه المواقف.
يتعلّق الأمر بالحالة، في حالات معيّنة ليس الانتقال إلى المنزل اختياراً سهلاً أو متاحاً. وفي حالات أخرى يمكن نقل المريض إلى المنزل مع كل ما يحتاجه، فالأهم هو اختيار المريض والعائلة.
كثر من المرضى يفضلون الموت في المنزل وفي أسرتهم الخاصة. وبالنسبة لنا، الاختيار الأفضل للمريض هو المنزل حيث يخف العذاب النفسي للمريض والجسدي في الوقت نفسه، لأنه مهما كان الاهتمام كبيراً في المستشفى، في النهاية، يجرّد المريض من هويته ويصبح مجرد رقم إضافي لا أكثر.
لذلك تبقى راحة المريض في المنزل حيث تكون كرامته محفوظة. في المستشفى يدرَّب الاختصاصيون في الجسم الطبي، بشكل أساسي على إطالة الحياة ويعملون بوسائل قد تكون غير لطيفة، ولا تأخذ راحة المريض في الاعتبار.
في جانب الرعاية التلطيفية، همّنا الأساسي تحسين نوعية حياة المريض وجعله مرتاحاً نفسياً وجسدياً مهما كان مرضه وبغض النظر عما سيموت أو لا أو إذا سيعيش يوماً إضافياً أو لا. نتعامل معه كإنسان لا كمريض، ونعيد إليه هويته ونحاول تحسين نفسيته.
كما نحاول أن نبحث عما يميزه، حتى في مرحلة مرضه، لأنه في المستشفى يجرّد من كل ذلك. من الطبيعي أننا كأشخاص نخاف من الموت ولا نحب الكلام في هذا الموضوع بل نحاول أن نهرب منه، لكن ضمن الرعاية التلطيفية نساعد المريض على تقبّل فكرة الموت باعتباره أمراً لا بد منه.
- هل تتخذ العائلة أحياناً، قرارات تجاه المريض، تندم عليها في مرحلة لاحقة؟
عندما نتفق مع العائلة على اعتماد ما هو أسهل وأنسب للمريض، لاحظت من خلال عملي أنها بعد نهاية المريض، تشعر بأنها قامت بواجباتها وأنها فعلت كل ما يمكن فعله.
أعتقد أن أكثر ما شجعني على التوجه إلى الرعاية التلطيفية هو ما يمكن فعله في التعامل مع العائلة وقدر المساعدة التي يمكن تقديمها عندما تكون الوفاة محتمة ونكون قد قمنا بأكثر ما يمكن فعله.
عندما يقرر أفراد العائلة اختيار الطريق الذي يرتاح فيه المريض، سواء كان صعباً لهم أو لا، يشعرون براحة نفسية كبيرة وبسلام داخلي وتقل نسبة الاكتئاب لديهم، كونهم حافظوا على راحة مريضهم وكرامته.
هذا مع الإشارة إلى أن القرارات التي يتخذها الأهل أحياناً ليست دائماً لصالح المريض، بل إن المحبة الزائدة وما تخلّفه من أنانية تجعلهم يختارون ما هو أنسب لهم لا ما هو الأفضل للمريض.
لكن في كل الحالات، القرارات التي تتخذ ليست سهلة دائماً ويجب أن يكون الأهل والمريض على اضطلاع ومعرفة بما سيحصل لاحقاً سواء كان إيجابياً أو سلبياً.
دورنا كمتخصصين في الرعاية التلطيفية أن نجعل الأهل والمريض على دراية بما سيحصل وما يحصل فهم ليسوا أطباء ولا يتعاملون مع الأمور الطبية من جانب علمي بل عاطفي، في معظم الأحيان.
- كيف يتم التواصل معكم كفريق "بلسم" بهدف الحصول على خدماتكم؟
تتصل بنا عادةً عائلة المريض أو الطبيب الذي يتابع حالته، فنقصده في المستشفى أو المنزل ونقيّم حاجاته ونفسيته ونتعاون مع طبيبه. نتابع الحالة بحسب حاجات المريض سواء بشكل متكرر أو حتى يومياً.
علماً أن نسبة 70 في المئة من الحالات التي نتبناها هي حالات سرطان، لكن ثمة حالات أيضاً من أمراض القلب والأعصاب.
نعمل جاهدين عندها، على تحسين الحالة قدر الإمكان ونزور المريض ونركز على العائلة من مختلف النواحي لأنها هي التي تكون على اتصال دائم مع المريض وهي التي تعتني به ومن الضروري أن تكون على علم بكل ما يمكن فعله في الحياة اليومية لمساعدته من الناحيتين الصحية والنفسية.
مع الإشارة إلى أننا نواجه مشكلة أحياناً عندما تتضارب الآراء ضمن العائلة حول القرارات التي يمكن اتخاذها بشأن المريض.
- إلى أي مدى تشعرين بأنك تقومين بعمل إنساني في عملك هذا؟
بكل صراحة، إن الراحة التي أعطيها للمريض في فترة مرضه وللبعض قبل الوفاة أهم عندي بكثير من عملي كطبيبة.
أعرف أني من خلال عملي هذا أكتب نهاية قصة مختلفة سواء للمريض أو لأفراد عائلته ومحبيه مما يعطيني شعوراً مختلفاً تماماً عما يمكن أن أقوم به في أي عمل آخر.
اكتشفت أهمية العناية التلطيفية عندما رأيت كم من الصعب أن يحصل الإنسان على ما يريده من الحياة. وتشجعت أكثر لأني رأيت أهمية الدعم الذي أقدمه لعائلة المريض التي تشعر، إذا توفي، بأنها قامت بما أمكن لمساعدته.
في الجانب النفسي
د. مايكل خوري: المواجهة صعبة مع المريض والعائلة
د. مايكل خوري، أن المواجهة تكون مع المريض والعائلة في الوقت نفسه في المراحل الصعبة من المرض. فيشير إلى وجود تحديات صعبة تبلغ ذروتها عندما تقترب الوفاة، خصوصاً أن لكل مريض مقاربة مختلفة للموت... "ثمة من يرفض الكلام في الموضوع ويستبعد فكرة الموت، عندها نتعامل مع المريض بما يتناسب مع حالته بحسب معياره الخاص فلا نفرض عليه شيئاً.
كما أنه ثمة ردات فعل مختلفة يطغى عليها الخوف والتوتر. هذا دون أن ننسى أن المراحل الأخيرة تكون سعيدة للبعض حيث يمضون فترات أطول مع الأحباء والعائلة وثمة عائلات تتقارب بشكل واضح بنسبة 20 في المئة في المرض وعندما تقترب أكثر فكرة الوفاة، يتعزز التقارب.
ويلاحظ أنه بعد وفاة المريض يشعر أفراد العائلة بالحزن لأنهم لم يمضوا معه مزيداً من الوقت في السابق كما في مرحلة حياته الأخيرة.
نعمل كاختصاصيين في علم النفس ضمن الرعاية التلطيفية على مساعدة هؤلاء الأشخاص ليتحدثوا بسهولة كبرى عن الموت ويكونوا مرتاحين، خصوصاً أن ذلك يساعدهم في مراجعة مراحل حياتهم السابقة فيرون الأمور بإيجابية كبرى عندما ينظرون إلى إنجازاتهم السابقة بعيداً عن لحظات المرض وأجواء الحزن التي يعيشونها.
وثمة طرق عملية نعتمدها لمساعدتهم في ذلك ليدونوا كل ما حققوه في السابق. وعلى سبيل المثال، نساعد الأم التي تشعر بالتقصير تجاه أطفالها على أن ترى الأمور الإيجابية التي حققتها معهم، ونفهمها أن ما تمر به أمر طبيعي وأن هذا لا يلغي الإنجازات التي حققتها كأم ولا يفقدها دورها.
ونشدد أيضاً على التواصل لأننا نعرف جيداً أن ثمة مشاعر تبقى في داخلنا دون أن نعبّر عنها ومن المهم الإفصاح عنها في الوقت المناسب. إضافةً إلى أهمية البكاء عند الحاجة.
كما نتكلم في الجوانب الروحانية ونحاول أن نعيد إلى المريض كرامته التي تتأثر بالظروف الصعبة التي يعيشها في مرضه عندما يشعر بأنه بات عاجزاً عن تأدية الأعمال اليومية أو يحتاج إلى من يساعده في الحركة أو أنه يضع حفاضات في السرير لأنه صار عاجزاً عن دخول الحمام.
هذا كلّه يحدث فارقاً مهماً للمريض الذي يشعر في إحدى المراحل بأنه لا يملك اتخاذ أي قرار وكأنه فقد شخصيته. من المهم عندها أن نعيد إليه كرامته وهذا ما نسميه "علاج الكرامة" Dignity Therapy.
كما أن المريض في المستشفى يفقد جزءاً من كرامته بسبب طريقة التعامل معه وكأنه آلة بالنسبة إلى أطباء كثر نادراً ما يسألون المريض ما يريده من الحياة ونادراً ما يركزون على الجانب الإنساني لديه.
لذلك، ضمن الرعاية التلطيفية، أقل ما يمكن فعله أن نعيد إلى المريض كرامته وعزة نفسه لأنه لا داعي لزيادة عذابه. والتغيير الذي نحدثه عادةً يكون في 180 درجة، وهذا ما لا يمكن الاستهانة به.
وتبرز هنا أيضاً أهمية التعاطي مع العائلة لتسهيل الأمور على أفرادها، فكلنا نعلم أنه عندما نفقد عزيزاً نحزن كثيراً لكن نرتاح عندما نعزز القيم والمبادئ والسلوك الموجود أصلاً لديه.
لذلك، يكمن دورنا في تعزيز هذه القيم والتقاليد التي لدى المريض وعائلته مما يساعد الطرفين في الوقت نفسه. هذا، مع الإشارة إلى أن ألم المريض لا يخف أحياناً بالأدوية بل يخف بالمساعدة النفسية التي تحدث فارقاً مهماً في الناحيتين الجسدية والنفسية.
- ماذا عن مساعدة العائلة، كيف تتم وإلى أي مدى تكون إيجابية في تخفيف الأحزان؟
لا شك أن العائلة ككل تتعب كثيراً من الناحيتين النفسية والجسدية من رؤية عذاب المريض، لذلك نساعدها لتحسن التعامل مع الأمور ونركز على حاجاتها.
كما تسأل العائلة الكثير عن المرض، ومن الضروري تأمين كل المعلومات اللازمة لأفرادها ليعرفوا الطرق الفضلى للتعامل مع المريض.
علماً أننا نشدد على أهمية راحة أفراد العائلة وعلى سهرهم على المريض بالتناوب ليتمكنوا من الصمود، فمن المهم أن يتبادلوا الأدوار، خصوصاً أننا نرى أن كثراً يشعرون بالذنب من الابتعاد عن المريض سواء للراحة أو للخروج. إلا أن لذلك أهمية كبرى ليصبروا بشكل أفضل.
أهداف الرعاية التلطيفية ودورها
- مساعدة المريض وأفراد العائلة ودعمهم ليحسنوا التعامل مع المرض
- إعطاء المعلومات اللازمة للمريض والعائلة عن المرض وعن طرق التعامل معه
- الدعم النفسي
- التحكّم في أعراض المرض وتسهيلها على المريض ومساعدته على تحمّل آلامه
- دعم إجتماعي
- إعادة تأهيل
- مساندة روحانية
- التعامل مع المريض بشكل يصبح فيه معنياً بما يحصل معه
- تقديم الدعم والمساعدة اللازمين ليبقى المريض نشيطاً قدر الإمكان خلال فترة مرضه
- تأمين علاجات مكمّلة
- الرعاية في الأيام الأخيرة وتحسين القدرة على تقبّل فكرة الموت